ضمن كواليس وأروقه الأممالمتحدة وفى الممرات الداخلية التى عادة ما تجري فيها الأحاديث الجانبية (البالغة الأهمية) بين زعماء العالم فى فعاليات أعمال الجمعية العامة للمنظمة الدولية التى تنعقد فى هذه الأيام من شهر سبتمبر من كل عام، نصح الرئيس الأمريكي باراك أوباما الفريق كير رئيس جمهورية جنوب السودان بالتخلي عن دعم المتمردين وحمَلة السلاح الذين يقاتلون الحكومة السودانية. شهود اللقاء والحديث الهامس أكدوا ان لهجة أوباما وتعبيرات ومقاطع وجهه كانت ذات صبغة (آمرة) بأكثر مما هى مجرد نصح سياسي معتاد وفى طار مجاملات خاصة. وبالطبع لا يمكن لأحد – حتى ولو لم يكن هذا النصح جاداً ومخلصاً – أن يقلل من أهميته و أبعاده السياسية الأمنية. فليست هذه هى المرة الأولي وربما لن تكون الأخيرة التى تبدي واشنطن قلقها من دعم جمهورية الجنوب الوليدة لأعمال مسلحة ضد السودان ؛ فقبل أسابيع أبدي مسئولين فى الخارجية الأمريكية ذات القلق وأرسلوا إشارات لا تخلو من تحذير لحكومة جنوب السودان (بمراعاة ذلك) ويأتي هذا النصح هذه المرة من الرئيس أوباما شخصياً (حتى تكون الصورة أكثر وضوحاً) لدي الفريق كير هو ايضاً، فيا تري هل من حيثيات ومعطيات كانت وراء ذلك؟ الواقع أنه وعلى الرغم من صعوبة التنبؤ بسياسات واشنطن وتناقضاتها، بل وتقاطع بعض مواقف مسئوليها، إلا ان من السهل ان نقف على عدد من الأسباب التى تجعل واشنطن تبدأ بتنبيه جمهورية جنوب السودان لمخاطر زعزعة استقرار السودان. أولها ان واشنطن قد شرعت فعلياً فى التوجه نحو الدفع بشركات النفط الأمريكي لدخول سوق النفط فى جمهورية جنوب السودان، فقد رأينا كيف دعا المبعوث الأمريكي الخاص الى السودان (برنستون ليمان) قبل أيام كل الشركات الراغبة فى العمل في نفط جنوب السودان بالرجوع الى وزارة الخزانة الأمريكية لاستيفاء شروط وتدابير معينة لتجاوز العقوبات الاقتصادية التى تعوق دخول هذه الشركات السوق النفطي الجنوبي . هذا الهدف الأمريكي – بالسيطرة على نفط جنوب السودان – هو هدف أمريكي استراتيجي أسهم بفاعلية وبصورة مباشرة فى سعي واشنطن لفصل جنوب السودان، ولا يمكن – بعد كل هذا الجهد والعناء – التضحية بالبترول الجنوبي فى ظل دعم جمهورية جنوب السودان لمتمردين ضد الحكومة السودانية، وقد يؤدي فى النهاية الى دعم متبادل يتضرر منه الجنوب وقطاع نفطه أو حرب بين البلدين يروح النفط ضحية لها، او حتى على وجه الإجماع تصبح المنطقة (غير آمنة) لا تساعد على عمليات البترول وتعرقل إنتاجه وتصديره. ثاني الأسباب ان الأممالمتحدة أصدرت تقريراً تزامن مع انعقاد اجتماعات الجمعية العامة فى نيويورك قالت فيه (بقلق بالغ) ان مواطني جنوب السودان يواجهون – للمرة الأولي فى حياتهم – نقصاً حاداً جداً فى الغذاء، وأوردت المنظمة الدولية تقديراً لمحتاجى الغذاء وصل لحوالي (1.2) مليون نسمة من جملة سكان جمهورية الجنوب الذى يقدر بحوالي 8 مليون نسمة. وأجرت المنظمة الدولية مقارنة بمن كانوا يحتاجون الغذاء – قبل قيام الدولة – ووجدت ان العدد كان فى حدود ال300 ألف مواطن فقط! بما يشير الى تفاقم عملية النقص الحاد فى الغذاء وتضاعفها ثلاثة أضعاف فى غضون أشهر ! هذه الحقيقة تثير رعب الدول الغربية كافة لأنها كارثة إنسانية تتطلب تدخلاً من المجتمع الدولي ومن ثم فان وجود كارثة نقص غذاء بهذه الدرجة من الحدة فى جنوب السودان لا يتسق معها قيام حكومة الجنوب بدعم متمردين ضد الدولة الأم ليزيد من كارثة جمهورية الجنوب . كما ان الأمريكيين فيما يبدو يلفتون نظر حكومة جنوب السودان لتوجيه طاقاتها نحو معاجلة الداخل ونشر الأمن والاستقرار بدلاً من إشعال الحروب . ثالث الأسباب وآخرها فان واشنطن فيما يبدو ورغم علاقاتها الوثيقة والمريبة بقطاع الشمال بالحركة الشعبية وتعقد معه اجتماعات متواصلة وتخطط معه خططاً معادية، لديها اعتقاد راسخ – رغم كل ذلك – ان هذا القطاع بمثابة حمولة زائدة بالنسبة لجمهورية جنوب السودان، وعليها ان تتخلي عنه وإلاّ تسبب فى أعاقة تقدم دولة الجنوب، كما أن القطاع وفقاً لما بدأ يظهر ويلوح الآن ليس خياراً لواشنطن (لفعل شيء ذي بال) فى السودان خاصة فى ظل الهزائم العسكرية التي يتلقاها عقار والحلو فى النيل الازرق وجنوب كردفان حالياً. واشنطن إذن تنظر الى الأمور (بعقل اضطراري) إذا صح التعبير وتريد من قادة جمهورية الجنوب ان يفعلوا ذات الشيء !