مرحباً بسلفاكير في الخرطوم.. ولكن التشريح السياسي يجب أن يكون (على بلاطة)، والسياسة جوهرها القوة، فالخرطوم لديها كروتها للضغط والمتمثلة في عبور بترول الجنوب إلى الخارج عبر أراضيها أضف إلى ذلك مصافي تكريره الموجودة أيضاً في أراضيها.. واعتماد الجنوب في غذائه على منتجات الشمال. وكروت ضغط جوبا هي أيضاً البترول وحوجة الخرطوم لتفاهم مجزٍ يدُر عليها نصيباً مقدراً من العملات الصعبة هي في أمس الحاجة إليها، وأيضاً من كروت جوبا وجود قوات الجيش الشعبي في أرض الشمال والقتال الدائر في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وأيضاً من عوامل قوة الجنوب وجود حليف قوي يقف من ورائه متمثلاً في أمريكا وحلفائها الغربيين.. لذا تم تقديم زيارة سلفاكير للخرطوم إلى ما بعد زيارته لأمريكا والتقائه بالرئيس الأمريكي باراك أوباما هناك.. وإلقاء سلفاكير لخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذن فالوسطاء ليسوا ببعيدين عن مشهد اللقاء الثنائي بين البشير وسلفاكير.. بشاهد ما قاله سلفاكير عن الوسطاء، في الخرطوم. ولو كان الوسيط المباشر هو الاتحاد الأفريقي.. فالاتحاد الأفريقي ذاته ليس ببعيد عن الدوران في فلك أمريكا، بل وتوجد استراتيجيات الخارج كمؤثر فاعل، فالخارج وطبيعة أوضاع الداخل الشمالي والجنوبي هما محدد ما ستنتهي إليه تداعيات زيارة سلفاكير للخرطوم. وإذا كان القتال الدائر في جنوب كردفان والنيل الأزرق ووجود قوات الجيش الشعبي في المنطقتين.. هما من أوراق ضغط الحركة الشعبية، فالوسيط الأمريكي هو الذي صَنع الجنوب الجديد بغرض إعادة هيكلة السلطة في الشمال.. حتى لو انفصل الجنوب، والوسيط الأمريكي هو الآن في مأزق أن يسقط الجنوب في الفوضى فالقضية العاجلة الآن والتي تهم أمريكا.. هي تأمين الجنوب القديم ذاته بعد أن أصبح دولة مستقلة تضعها أمريكا ضمن قائمة أولوياتها في أفريقيا، لذلك دفع أوباما بسلفاكير للمجيء إلى الخرطوم ووقف ليس ببعيد عن (المشهد).. يضغط بسيف العقوبات المسلط فوق رقبة حكومة الإنقاذ. وفي المقابل أسفرت ضغوط الخرطوم عن قدوم سلفاكير إليها.. مع الوضع في الاعتبار أن ما يجري في جنوب كردفان والنيل الأزرق يشكل لسلفاكير ورقة ضغط لا أكثر ولا أقل (وهو في قرارة نفسه لا يؤمن بالجنوب الجديد)، لذلك تجاوز قطاع الشمال وهو يوقع على اتفاقيات تأمين الحدود مع الخرطوم. وعن ضغوط الخرطوم بالنفط ونقله إلى الخارج عبرها تبدل الموقف الأمريكي حيث (دعت سفيرة أمريكا إلى جوبا سوزان بيج الدولة الجديدة إلى التفاوض سريعاً مع الشمال حول تقاسم إيرادات النفط.. وأوضحت أنه وفي حال غياب اتفاق متين قريب بين الدولتين ستواجه البلدين صعوبات اقتصادية جدية.. الصحافة 6/10). أضف إلى النفط حوجة الجنوب للمؤن الغذائية المنسابة من الشمال حيث (كشفت وزارة الشؤون الإنسانية ودرء الكوارث بجمهورية جنوب السودان أن ما يقرب من ال 1,3 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات غذائية عاجلة وقال وزير الشؤون الإنسانية في جنوب السودان.. لوال أشويل، في مؤتمر صحافي بجوبا أن حكومته بالتعاون مع المنظمات الإنسانية الدولية، تسعى إلى توفير 400 ألف طن من الغذاء لتجنيب البلاد كارثة إنسانية محتملة، وكانت الأممالمتحدة قد قالت الشهر الماضي إن جنوب السودان يواجه نقصاً حاداً في الغذاء بسبب غزارة الأمطار والعنف المتفشي على نطاق واسع.. صحيفة ألوان 7/10). نقص المؤن الغذائية وتردي الأوضاع الاقتصادية في الجنوب ومؤشر التظاهرات التي انفجرت في واو وتفشي العنف.. تلك هي نُذر (سقوط الجنوب في الفوضى). لذلك جاء لقاء سلفاكير بالبشير في الخرطوم ولقائه بلام أكول (لا يُفصل بينهما).. كمركب في مخطط أمريكا لمنع سقوط الجنوب في الفوضى وكان نائب الرئيس الأمريكي أوباما.. بايدن، قد حذر قبل انفصال الجنوب من صومال آخر في منطقة القرن الأفريقي هو جنوب السودان.. حال انفصاله عن شماله. وفي مقدمة أوراق الحركة الشعبية قواتها الموجودة في جنوب كردفان والنيل الأزرق بمثابة جنوب جديد استحدثته أمريكا بتضمين المنطقتين في اتفاقية نيفاشا بهدف إعادة تشكيل السلطة في شمال السودان في حال انفصال الجنوب وتلك هي استراتيجية أمريكا على لسان مبعوثها السابق إسكوت غرايشن فيما وصفه بتقسيم كيكة السلطة في الشمال، ولكن سقوط الجنوب في الفوضى المُنذر.. بنقص الغذاء ومهدد توقف تصدير بترول الجنوب، دفع بأوباما إلى حث سلفاكير للتفاوض مع الخرطوم بصورة مباشرة، وفيما يعني سلفاكير فهو قائد واقعي يهمه أمر المنطقتين فقط في استخدامهما كورقة ضغط على الحكومة.. ونستنتج ذلك من حديث وزير التجارة بجمهورية جنوب السودان وهو يتحدث عن اللقاء الثنائي بين البشير وسلفاكير في الخرطوم (إن الرئيس سلفاكير يريد مناقشة كافة القضايا العالقة بين الدولتين وأن يلعب دوراً في إنهاء التوتر بين قطاع الشمال وحكومة الخرطوم لتأثير الحركة الشعبية في الجنوب على القطاع.. الأخبار 3/10). إذن فقطاع الشمال هو مجرد ورقة ضغط في يد سلفاكير لذلك لا يمانع سلفاكير في تجاوز حكومة الجنوب للقطاع في اتفاقيات تأمين الحدود مع الخرطوم بما جاء في صحيفة السوداني 21/9 (عن مكالمة مهمة أجراها ياسر عرمان الأمين العام لقطاع الشمال.. مع باقان أموم استنكر فيها الخطوة التي قام بها وفد الأمن الجنوبي والمكون من وزارة الدفاع والداخلية والأمن بحكومة الجنوب، وزيارتهم للخرطوم والتي انتهت بالتوقيع على اتفاقيات ثنائية حول الحدود.. حيث رأي عرمان أن تلك الاتفاقيات جاءت سابقة لأوانها وأنها كان يجب أن تتم عقب التوصل إلى حلول سياسية في ما يتعلق بأعضاء الحركة الشعبية في قطاع الشمال ممثلين في شخصه وعقار والحلو). ومن الملاحظ أن الضجة المثارة حول اتفاق أديس أبابا بين حكومة السودان وقطاع الشمال.. قد خفتت، فالأهم الآن عند دولة الجنوب وأمريكا هو تأمين نقل النفط وانسياب المؤن الغذائية من الشمال للجنوب تجنباً لسقوط الجنوب في الفوضى. إلحاح الوضع وخطورته في الجنوب دفعا بسلفاكير إلى الخرطوم بتشجيع من أوباما.. وفي الظلال يقف الأخير في الانتظار، فالحليف القوي يدعم الطرف الذي تهمه مصلحته.. أي الجنوب، وقالها سلفاكير في الخرطوم (إن هناك وساطة منذ اتفاقية السلام مؤكداً التزامهم بمبدأ الوساطة.. أخبار اليوم 9/10). وفق ما قلناه من قبل فالاتحاد الأفريقي ليس ببعيد عن الدوران في فلك أمريكا.. وتقديم سلفاكير لزيارته للخرطوم إلى ما بعد ذهابه لنيويورك هو استقواء بالمجتمع الدولي (أي أمريكا وحلفاؤها الغربيون.. مستقوياً بهم أنهم يقفون وراءه).. بمعنى أن العقوبات على حكومة الإنقاذ (مُشهرة) لصالح سلفاكير.. وخطاب سلفاكير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يُذكِّر بالخطاب الذي ألقاه في نيويورك في أكتوبر من العام الماضي والذي دعا فيه المجتمع الدولي إلى المساهمة في تنمية الجنوب.. وفي محاولة لتبرئة الجنوب من دعم قوات الحلو وعقار قال سلفاكير (تؤكد دولة جنوب السودان بدون أي لبس أنها لم ولن تتدخل في أي صراع داخلي في السودان ولكن الصراع يحدث في المناطق الحدودية مع دولة الجنوب وقد تنتشر أثاره بشكل سلبي إلينا، لذا نحث دولة السودان على السعي لإيجاد حل سلمي لتلك الصراعات.. أخبار اليوم 24/9). ولكن تبقى حقيقة دعم الحركة الشعبية لعقار والحلو ودعم أمريكا للجنوب الجديد ممثلاً فيهما ك (حجر أساس) في استراتيجيتها في السودان.. منذ التوقيع على اتفاقية نيفاشا ولقد أثبتنا ذلك وتعرضنا له مراراً في مقالات سابقة مستشهدين بلام أكول في كتابه (الثورة الشعبية لتحرير السودان.. ثورة أفريقية).. أن الوسطاء (أي أمريكا) ومعهم جون قرنق.. ضغطوا على وفد الحكومة المفاوض في نيفاشا لتضمين المناطق الثلاث (أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق) في اتفاقية نيفاشا، ولكن الأولوية الآن لأمريكا هي إنقاذ الجنوب من السقوط في الفوضى.. لذا حث أوباما سلفاكير بالتواصل المباشر مع البشير، قال سلفاكير في الخرطوم عن ضرورة (خط الاتصال الساخن) بينه والبشير: إن أي خطأ طفيف بين الجانبين يمكن أن يعود بكارثة وأنه عندما لا يتشارك الناس في قضية محددة يمكن أن يحدث شيء ما في الوسط مؤكداً حرصهم على الاتصال وإن لم يكن يومياً فلا بد من الاتفاق عليه من وقت لآخر ويمكن تبادل الاتصالات بأي طريقة حتى لا نتيح فرصة للشائعات). إذن فالوساطة هي من أقوى كروت ضغط سلفاكير.. هي ومنطقتا جنوب كردفان والنيل الأزرق وما يجري فيهما من اقتتال، فالقضية الملحة بالنسبة له الآن هي احتمال سقوط الجنوب في الفوضى الأمر الذي اضطر حتى أمريكا لتقديم إنقاذ الجنوب على استراتيجيتها من وراء صُنع الجنوب الجديد وهذا هو السبب في منح الأولوية للنفط والتجارة في مفاوضات سلفاكير والبشير.. حيث (أكد وزير التجارة والصناعة بحكومة جنوب السودان أنهم في اللجنة الاقتصادية اتفقوا على ترتيبات مالية انتقالية وتجارية بالإضافة إلى الترتيبات البنكية وقضايا النفط والمتأخرات المالية بين البلدين كرؤوس مواضيع يتم النقاش حولها للانتهاء منها). ولكن تبقى قضية جنوب كردفان والنيل الأزرق هي (المحك والفيصل).. وكما قلنا لو ارتأت حكومة الجنوب وأمريكا الركون للأمر الواقع الملح في الجنوب فإن المفارقة هي في أن تسوية قضية المنطقتين يعني وضع النهاية لاستراتيجية أمريكا من وراء الجنوب الجديد.. فكيف تحتفظ أمريكا بالنار (تحت الرماد) في المنطقتين.. ولن تتخلى أمريكا عن استراتيجيتها.. طريق التطبيع بين دولتي شمال السودان وجنوبه شاق ومفروش بالأشواك لتداخل عناصره الداخلية والخارجية، وفقاً لهذا التحليل.