لم نكن من المرتاحين لانفصال جنوب السودان، لكن الأمل كان يحدونا بأن تكذب توقّعاتنا وتصدق مراهنات الواهمين على أن الانفصال سيأتي بالهدوء والسكينة والتنمية للجنوبيين والشماليين . مع الأسف الشديد صدقت توقّعاتنا وما زال هذا الجرح نازفاً بلا توقّف وما زالت الأصابع الخارجية تعزف على الأوتار ذاتها، وإن بتوزيع يراعي الوضع الجديد . عندما يقتل 75 إنساناً ويُجرح المئات في نزاع بين مجموعتين قبليتين تنتميان إلى عائلة واحدة في ولاية جنوب كردفان، إثر خلاف على نبع ماء يستخدم لشرب الأبقار، ينبغي على كل متابع للشأن السوداني والإفريقي والإنساني أن يتساءل عن مغزى هذا الاستسهال في القتل المتبادل على أتفه الأسباب؟ كيف يجد هؤلاء منطقاً راكباً على أدمغتهم أن يكون المعبر لسقي الأبقار قتل عشرات من الناس، وبالتحديد من أبناء العمومة؟ لم يكن السلام وحياة البشر حاضرين في أذهان أولئك المخترقين للشأن السوداني والإفريقي، وهم يتظاهرون بالعمل من أجل انفصال الجنوب، بل ربما أسهم هؤلاء في ترك مسمار جحا كوسيلة متبعة تاريخياً للإبقاء على الصراع وإبقاء الطرفين، وكل الأطراف في كل من الشمال والجنوب، في حاجة ل “مساعدة" أطراف خارجية تبقي الحبل بأيدي هذه الأطراف . ولا يبدو أن السلطة في الخرطوم تحسن التعاطي مع أزمات من هذا النوع رغم أنه صداع مزمن تمرّست عليه، وتعوّدت على التعامل مع مناطق أدمنت الحرب الأهلية منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويتعامل أبناؤها مع السلاح كأنه بسكويت . مرة أخرى نجد نموذجاً للمسارات الأمنية حصرياً باعتبارها أقل الحلول استخداماً للعقل والمنطق والمنحى الإيجابي الذي يبدو منافياً لفطرة البعض . لذلك ما إن انفصل الجنوب حتى استبدل الصراع بين الشمال والجنوب بمواجهات بين القوات الحكومية السودانية والحركة الشعبية في الشمال . إحدى المنظمات الحقوقية تتحدّث عن اعتقال الحكومة السودانية 600 شخص منذ انفصال الجنوب واندلاع المواجهات المسلحة قبل أربعة أشهر . لسنا ممن يأخذون على محمل المصداقية المطلقة لتقارير منظمات “إن . جيز أو" لأنها على نحو عام موجّهة ومغرضة وتخدم أجندات ليست بعيدة عن مشاريع الهيمنة وغسيل الدماغ، مرة بالأساطيل ومرة أخرى بأدوات تتغلّف بالتنمية وملحقاتها . لكن الاشتباكات الدامية وسقوط الضحايا بشكل شبه يومي تصب في خانة التقارير عن الاعتقالات وليس مضاداً لها . من حق السلطة في الخرطوم أن ترفض أي تفاوض مع الحركة الشعبية شمال السودان الذين يقاتلون القوات الحكومية في جنوب كردفان والنيل الأزرق . لكن ما دام سكان الولايتين الأصليون كانوا يقاتلون الى جانب الجنوب ضد الشمال على الرغم من انتمائهم إلى الشمال، فإن حالة غير صحيحة يجب أن تتم معالجتها على نحو علمي دقيق يأخذ في الاعتبار خصوصية المنطقة واحتياجات سكانها، وبما يحفظ وحدة الأراضي السودانية ويحمي استقلاله . وحتى تجري الأمور بهذا الاتجاه ينبغي على كل حكومة مسؤولة أن تتبنى وتلتزم قولاً وعملاً مبدأ العدالة بين السكان في التنمية وفرص العمل وكل أنواع الخدمات . عندما توقّع اتفاقات مصالحة ويجري نسفها على الفور، فإن هذا يعني أن الأرضية التي شيّدت عليها ليست ثابتة، وأن ثغرات عديدة تركت فيها نتيجة التعويم الذي تظن الأطراف أنه يخدم تفسيرها، ما يعني بالضرورة أن الفطرة الصراعية تتغلّب على التوجه نحو التصالح . إلى متى تستمر هذه الدوّامة؟ كل الأطراف مسؤولة عن الإجابة . المصدر: الخليج 24/10/2011