قدَّم المندوب الدائم لجمهورية السودان بمجلس الأمن الدولي السفير دفع الله الحاج -الخميس الماضي- بياناً حذّر فيه من خطورة تسييس العدالة الدولية من قِبل محكمة الجنايات الدولية، وأشار البيان -باستفاضة- إلى التجاهل التام الذي يجري الآن للمبادئ الأساسية التي كانت موضع تفاوض وتأكيد الدول المؤسسة لميثاق المحكمة والذي ينص - بشدة - على الفصل التام بين مقتضيات العدالة والتقديرات السياسية، بحيث تنأى السياسة تماماً عن الشأن العدلي؛ ومضى البيان متسائلاً حول إغفال تقرير مدّعي المحكمة للتطورات الإيجابية الكبيرة التي حدثت في السودان عموماً ودارفور على وجه الخصوص والتي لا تخطئها العين ومن المفترض أن يكون لها الوزن المنشود؛ وخلُص البيان إلى انحراف الأهداف المتوخاة من إنشاء المحكمة عن مسارها المطلوب مبدياً الأسف لمجيء التقرير على ذات شاكلة التقارير السابقة دون الإشارة إلى أي تطور أو تقدم في كافة المناحي في السودان. ولعل هذه ليست المرة الأولى التي يقدّم فيها مدّعي محكمة الجنايات الدولية تقريراً لمجلس الأمن يضمنّه ذات السلبيات وذات الاتهامات، فالأمر قد أصبح مسلسلاً طويل الحلقات حتى لم يعُد مستساغاً. والأزمة الحقيقية في هذا الصدد هو أن مدّعي عام المحكمة - في حدِّ ذاته - جزءاً من أزمة العدالة الدولية بدلاً من يكون عنصراً فاعلاً في الحل، ففي الوقت الذي تُشيد الأممالمتحدة عبر بعثة اليوناميد بتحسُّن الأوضاع في دارفور، ويعضِّد المبعوث الخاص الأمريكي إلى دارفور ذات الشهادة، فإن تقرير الجنايات الدولية يكرر عبارات قديمة جامدة. هذا التكرار له بُعدين؛ البُعد الأول أنه يثير سخرية المراقبين على اعتبار أن من رابع المستحيلات في هذه الدنيا أن تظل أموراً بعينها كما هي لا تتقدم ولا تتأخر ولا ترتقي ولا تتطور إلى الأفضل. هذه النقطة تحديداً هي التي يدور الجدل والنقاش حولها بين أساطين القانون مع اقتراب انتهاء ولاية المدعي العام لويس اوكامبو العام المقبل والاستعداد لترشيح مدعي عام جديد بمواصفات بعيدة كل البعد عن مواصفات اوكامبو التي لم يكن حصاد (9) أعوام قضاها مدّعياً عاماً سوى تلطيخ سمعة العدالة الدولية وإغراقها في وحل السياسة والعمل المخابراتي. البُعد الثاني يتمثّل في صدور شهادة من البعثة المشتركة (اليوناميد) بتحسًُن الأوضاع وإقرار واشنطون بذات هذا التحسُّن وتتويج ذلك بإبدال المقرر الخاص لحقوق الإنسان بالبند العاشر الخاص بالدعم الفني لا يمكن أن يُقرأ بمعزل وبعيداً عن التطور الإيجابي في السودان ودارفور؛ بل لا نغالي إن قلنا أن إنهاء مهمة الخبير المستقل القاضي (شاندي) هو خير دليل وأقوى إثبات على تحسن الأوضاع الحقوقية على الأقل في دارفور والتحسن الحقوقي بهذا المستوي معناه بداهة ان الجانب العدلي فى السودان ودارفور هو أيضا تحسَّنَ أو صار أفضل على الرغم من أن الزعم بعدم وجود عدالة حقيقية استدعت تدخل محكمة الجنايات الدولية كان من الأصل أكذوبة لم تكن بحال من الأحوال لها ما يسندها. وعلى ذلك يمكن القول أن مندوب السودان في مجلس الأمن كان في موقف أقوى وهو ينتقد تقرير اوكامبو الجامد المتكلِّس، لأن الأمور لا تقف دائماً في مكانها وفي نقطة واحدة لا تبارحها.