دون التعرض تفصيلاً هنا للأسباب التى حدت بمجلس الأمن الدولي التزام الصمت وعدم التفاعل مع تقرير مدعي عام محكمة الجنايات الدولية -الخميس الماضي- فإن من المهم ان نُمعن النظر فى المداخلة الموضوعية الممتازة التى قدّمها المندوب السوداني فى المجلس السفير دفع الله الحاج والتي أشارت مصادر (سودان سفاري) فى نيويورك أنها وجدت استحساناً واسع النطاق حتى داخل الحلقة الضيقة للأعضاء الخمس الدائمين بمجلس الأمن، رغم تشدُد بعضهم المعروف! ولعل أبرز نقطة ذات طابع قانوني أضفت على المداخلة سحراً قانونياً جاذباً، إشارة المندوب السوداني الى أنَّ السودان سبقَ له ان أن أوردَ فى المؤتمر التأسيسي للمحكمة فى روما 1998 أنه يتحفّظ على ترك المدعي العام للمحكمة دون محاسبة وعدم إيراد نصوص واضحة وضمانات تكفل حيديَّة المدعي العام ومصداقيته . هذه النقطة فى الواقع تبدو مهمة وجوهرية، فهي كانت تتحسب وتحذر من وضع سرعان ما أكدته الأيام وأثبتته الحوادث، فالمدعي العام وفق ميثاق روما لا توجد آلية لمحاسبته ولا توجد آلية أيضاً تضمن حِيدته ونزاهته، وليس أدلّ على ذلك فى هذا الصدد ان المدعي العام لويس أوكامبو ارتكب قبل نحو ثلاثة أعوام جريمة تحرش جنسي بأحدي الموظفات العاملات بمكتبه ولم تطاله أية محاسبة ولو من قبيل التحقيقات الإدارية التى عادة ما تجري بحق المسئولين الذين يقعون فى مخالفات قانونية أو تدور حولهم شبهات. ولعل الفارقة هنا والتي أشار إليها السفير السوداني مُستدلاً بما أوردته الوزيرة الأمريكية السابقة كونداليزا رايس ان الولاياتالمتحدة كانت تعارض المحكمة الجنائية الدولية – من بين عدة أسباب واحدة منها – عدم خضوع المدعي العام لأي محاسبة. وجدير بالإنتباه هنا ان السودان حين أورد تحفظاته تلك فى العام 1998 لم يكن يعلم ولا كان هنالك من يعلم ان لويس أوكامبو سيتقلد هذا المنصب الدولي الرفيع؛ وأهمية هذه الإشارة حتى لا يعتقد البعض ان السودان لديه موقف مسبق من أوكامبو، أو أنه استهدفه فقط مجرد كونه مدعياً عاماً استهدف مسئولين سودانيين، فقد تم انتخاب اوكامبو فى العام 2002 أى بعد ثلاثة أعوام من ذلك التحفظ السوداني. النقطة المهمة الثانية فى المداخلة السودانية هى الأرقام والإحصائيات الدولية بشأن تحسن الأوضاع فى دارفور وغالبها صادر عن البعثة المشتركة المكلفة بحفظ السلام (اليوناميد)، فقد تساءل المندوب السوداني عن أيُهما نصدق، تقارير هذه المنظمات أم تقارير أوكامبو المجهولة المصادر؟ وهذه نقطة مهمة للغاية، إذ أن تضارب الإحصاءات والأرقام يبدو مريعاً للغاية وهو ما لا يمكن للمنطق أن يقبله إذا كان الهدف سامياً ونبيلاً، وإذا كانت تحقيقات المدعي العام مهنية محضة ومتجردة؛ إذ كيف يتحدث أوكامبو عن استمرار حالات الإبادة الجماعية والجرائم الانسانية واليوناميد تقول بتحسُن الأوضاع وعدم وجود إبادة جماعية؟! من الواضح ان السودان وضع نقاطاً واضحة للغاية على الحروف وسواء أدّت هذه المداخلة الى أن يسود الصمت الكسيف القاعة الرحبة المكيفة الهواء، أو ان هنالك أسباباً إضافية أخري (أخجلت) اعضاء مجلس الأمن وجعلتهم يفضلون ترك الأمور علي ما هي عليه دون اتخاذ أى إجراء او تعليق، فإن السودان على أية حال كسبَ معركة المنطق واستطاع ان يشيِّع المدعي العام الى مثواه السياسي الأخير مجرداً له من ثيابه القضائية الزائفة!