تشهد هذه الفترة تحركات عالمية متعددة الأشكال للضغط على الحكم في السودان بمناسبة الإعداد لانتخابات أبريل 2010، لبرلمان سيؤثر على صيغة العلاقة بالجنوب، خاصة مع مرور حوالى خمس سنوات على اتفاق نيفاشا بشأن تقرير مصير الجنوب الذي مازال معلقاً. ورغم حملات "إنقاذ دارفور" التى تجري في أكثر من عاصمة عالمية وإقليمية حاملة صرخات البعض الإنسانية، أو هجومات اللوبي الأميركي من أصحاب المصالح في الكونجرس، فإن هناك حملة أخرى من جانب "عقلاء في العالم" تطالب بحل شامل في السودان، يجمع كل القضايا والفرقاء. وقد صدر بيان جدير بالاحترام عن "جماعة الحكماء" Elders العالمية بتوقيع الأب "ديزموند توتو والأخضر الإبراهيمي" وبدعم من نيلسون مانديلا الذي يقف وراء تأسيس هذا التجمع منذ 2007، وتضم أيضاً كثيرين مثل الرئيس الأميركي السابق كارتر وكوفي عنان.. فما الذي يقلق دوائر مهمة بهذا الشكل على الوضع في السودان؟ الارتباك السائد على كافة المستويات السياسية، مؤخراً في السودان يدعو إلى عدم الاطمئنان على مصيره، ما لم ينقذه حل داخلي شامل يصحح علاقة الحكم بالمجتمع السياسي والاجتماعي على السواء. ولا يبدو في الخريطة السياسية القائمة أن ثمة بشائر حقيقية، رغم نغمة التفاؤل في الرسالة التي أصدرها بعض "حكماء أفريقيا والعرب" على نحو ما جاء في بيان الأب "ديزموند توتو" والأخضر الابراهيمي"، بمناسبة الإعداد لليوم العالمي للسودان. المتفائلون يأخذون في الاعتبار، ذكرى مرور خمسة أعوام على اتفاق "نيفاشا" دون تحقيق خطوات حاسمة، وأن هذا القلق بين أهل السودان أنفسهم بشأن الموقف السياسي، وليس مجرد الاطمئنان على مسيرة الاتفاق، هو الذي قد يدفع ببعض التماسك أمام تهديدات الاضطراب في ساحة الجنوب، ودارفور على السواء. بل ويلمح المتفائلون بعض الهدوء في الموقف الأميركي المتشدد بالأساس والمتمسك بالإشارة إلى تهمة "إبادة العرق" في دارفور والالتزام بحكم المحكمة الدولية ضد البشير ورفاقه ويلاحظ هؤلاء أن نغمة المبعوث الأميركي إلى السودان "الجنرال جريش"، ليست بهذه الحدة بعد مقابلاته مؤخراً لأطراف سياسية عديدة في الخرطوم، وأنه يشير إلى "فرص الحوافز" إلى جانب فرص العقاب"، وفق منطق العصا والجزرة، أو منطق فلاسفة أوباما عن القوة الناعمة والقوة الذكية، وأن مأزق الولاياتالمتحدة في أفغانستان والعراق، بل ومع إسرائيل والفلسطينيين لا يساعد على إضافة التشدد الآن مع السودان. وأن تهدئة العلاقات بين حكومة الخرطوم وحكومة الجنوب عبر الدور الأميركي قد تهدئ هذه المنطقة ولو مؤقتاً. لكن "السلة السودانية" ليست مليئة فقط بأوراق فلسفة "الإدارة" في الولاياتالمتحدة، إذ يلفت النظر أيضاً تصاعد الهجمة من قبل أصحاب المصالح في الكونجرس الأميركي من أصحاب حملات "إنقاذ دارفور"، وكأن المسألة السودانية محصورة فقط في "المظالم الإنسانية" في دارفور، لتنطلق حملات "إنقاذ دارفور" كبيرة ومدوية في أكثر من عاصمة عربية وعالمية؛ متجاهلة أن الأمر يحتاج أيضا "للتطبيق الشامل لاتفاق السلام، بما فيه اتفاق الشمال والجنوب، ليضمن ذلك كافة مناطق تهديد الوحدة السودانية، من جوبا إلى "أبيي" إلى جنوب كردفان، كما يشمل حل قضايا الفقر (اقتسام الثروة) بالإضافة لحكم مسؤول عن المشاكل العرقية والدينية، في البلد الشاسع الأطراف. ولأن الحكمة تقتضي هذه النظرة الشاملة في بيانات صدرت مؤخراً، فإن "بيان الأخضر وتوتو" يضع بعض المسؤولية على "شهود اتفاق نيفاشا" من منظمة الإيجاد (في شرقي أفريقيا) إلى أصحاب المصالح الأوروبيين، وفي مقدمتهم الولاياتالمتحدة لتقوم بمتابعة هذه الحلول الشاملة! لكن المتشائمين يحملون مرارات أخرى عن الموقف لا يرونها تساعد في حله، إلا إذا نهضت الأطراف الداخلية على حلول ديمقراطية جديدة تتسم بالتوافق، والتفاوضية وليس الصراع الذي تبدو مرارته الآن في الساحة السودانية، بسبب عدم الاعتراف المتبادل بين الحكم والمعارضة. ويظل الأكثر مرارة في الساحة السودانية، أن الموقف الذي يبدو أميل للهدوء أو التهدئة في غرب السودان من دارفور لحدود وموقف تشاد، وهبوط حدة التحارب في المنطقة، لاعتبارات كثيرة تحيط بقوى "التمرد" لا يقابله موقف مماثل على ساحة القوى السياسية. ويبدو الحكم في السودان سعيداً تماماً بهذا التطور الداخلي الذي يتيح له فرص الانفراد والإقصاء، وفق جوهر سياساته، بأكثر من إثارة قلقه على استقرار حقيقي، وعملية إنقاذ حقيقية. ومع ذلك لا أتصور إلا أن النظام السوداني قد أقلقه اجتماع قوى المعارضة السياسية، وبعض أطراف التنظيمات الشعبية، في جوبا (سبتمبر 2009)، وفي حضن "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، شريكه في الحكم! في إشارة للقاء الجنوب والشمال خارج الأطر التقليدية، لكن المؤسف أن هذه القوى السياسية نفسها التي لوحت بإمكان مقاطعة انتخابات أبريل 2010 ما لم تعدل كثير من قوانين الأمن والانتخابات... الخ لم تستطع أن تحسم أمرها بعد بشأن محاصرة الحكم، أو الضغط الحقيقي عليه من أجل أداء موضوعي قبل الانتخابات، لذا ظل الحكم يراهن على أن "شراكته" غير ملزمة إلا مع "الحركة الشعبية"، وهذه تعاني الكثير في الجنوب، ويمكن محاصرتها هي نفسها في أشكال من الاضطراب وإشاعة الانقسام وإثارة الصعوبات أمام سيطرتها وحدها في الجنوب، بل ومحاصرتها في واشنطن نفسها! أما أهل دارفور فمن المؤسف أن كافة الأطراف غابوا أو غُيّبوا عن اجتماع المعارضة في جوبا، ولم توجه لهم دعوات فعلية إلا في خطاب البشير الأخير عن إمكان الرجوع لاجتماع "الدوحة" مع بعض أطرافهم... بهذا لا نستطيع أن نتوقع في أشهر قليلة- حتى أبريل 2010- إلا مزيدا من الاضطراب في الصيغة السودانية التي تصورنا أن اجتماع "جوبا" سيكون فرصة تاريخية للمعارضة الشاملة أو التوافق الممهد لحل شامل... قال بعض المتعاطفين الذين تأملوا الخطاب السياسي في جوبا، إن"أشكالًا جذابة" أخرى لوضع الجنوب على الأقل، قد تكون مطروحة لإنجاح اتفاق نيفاشا بشكل مرض. فإزاء استحالة تصور انتخابات حقيقية في أبريل القادم مع أوضاع الجنوبيين الحالية في الشمال والجنوب والخارج على السواء، وإزاء الوضع غير المريح بالضرورة في دارفور، وإزاء المراوحة بين حالات الإقصاء، وحالات الالتقاء، بين شركاء الحكم وأطراف المعارضة، فإننا سوف نشهد في النهاية "تمثيلاً" بعناصر الوضع الراهن، ومن هنا يمكن الاستغناء عن صيغة "الاستفتاء" لحسم الخيارات الصعبة مع الجنوب، بعد إجراء مثل هذه الانتخابات انتقالًا إلى صيغة "التراضي" داخل البرلمان القادم- الذي لن يعني تمثيلًا حقيقياً- ولكن التراضي يظل ممكناً حول إعلان "الكونفيدرالية" في السودان عن طريق "البرلمان" القادم وليس الاستفتاء، حتى لو بقي الترابط رخواً بين أقاليم السودان ومستعداً في النهاية لمناقشته في ظروف أفضل، مثلما حدث عند استقلال السودان نفسه، الذي كان مقرراً أن يتم باستفتاء أيضاً في اتفاقية دولية، لم يجر الالتزام بها عندما أدرك عبد الناصر والأزهري أن إجراء الاستفتاء سيشكل ارتباكاً في سياسة ووضع الطرفين. فهل تقبل الأطراف السودانية بمثل هذا الحل، وهو ما يمكن أن يمثل رغبة داخلية لإنقاذ الأوضاع، بدلاً من الإلحاح الخارجي الجزئي- والمفرض في أحيان كثيرة- لإنقاذ دارفور؟ المصدر: الاتحاد 12/1/2010