للمرة الثانية – في غضون أسابيع – يقدم السودان شكوى مفصلة ومدعمة بالأدلة والأسانيد ضد حكومة جنوب السودان بقيامها بدعم أعمال مسلحة ضدها. وللمرة الثانية أيضاً تتجاهل المنظمة الدولية وفي الغالب (بفعل فاعل) الشكوى السودانية ويضطر السودان للطلب من المنظمة الدولية النظر في شكواه! فأواخر الأسبوع الماضي شد المتحدث باسم الخارجية السودانية بنيويورك بالنظر في الشكوى السودانية واتخاذ التدابير اللازمة لمنع قيام حكومة جنوب السودان بدعم متمردين ضد الحكومة السودانية. ويبدو هذا الموقف من جانب الأممالمتحدة غريباً رغم أن وجود المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن سوزان رايس وحرصها على الاّ تتعرض حكومة الجنوب لأي لوم أو قرار من المجلس فيه تفسير كافي لهذه المماطلة والتسويف في أمر ينذر بانفجار أوضاع ليس من مصلحة أحد أن تنفجر خاصة واشنطن نفسها التي ترتبط بمصالح مهمة لها في المنطقة تأتي في مقدمتها النفط. ونحن هنا نحاول تفكيك هذا اللغز الأممي حتى مع كونه محلولاً ومفسراً ؛ إذ من الواضح أن الأمر يعكس قدراً من تقاطع المواقف والسياسات بدرجة ما في إدارة الرئيس أوباما، إما أن أسبابها سياسة محضة، او أنها عملية لعب أدوار، ذلك اننا رأينا كيف أرسل الرئيس أوباما قبل حوالي أسبوعين نائب مستشار الأمن القومي بمعية الموفد الأمريكي الخاص ليذهبا الى جوبا ويبلغا الرئيس كير شخصياً الكف عن دعم العمل المسلح ضد الخرطوم. لم تمض على هذه الزيارة سوي أيام قلائل حتى عاودت جوبا نشاطها في دعم المتمردين وقد تمثل هذا الدعم في قيام تمردي جنوب كردفان – في بحر أسبوع – بحوالي (6) أو (7) محاولات للسيطرة على منطقة بحيرة الأبيض بعد أن اجتاحتها القوات المسلحة السودانية الحكومية قبل ذلك وقضت على منصة انطلاق الفرقة التاسعة التابعة للجيش الشعبي. لقد كانت هجمات المتمردين الست أو السبعة التي تكررت بقوة وعنف منطلقة من داخل أراضي دولة جنوب السودان، وكانت القوات المهاجمة في كل مرة تأتي بأسلحة جديدة وعتاد وقوات جديدة بعد أن تتكبد أفدح الخسائر من الجيش الحكومي! من المؤكد ان الدعم موصول من حكومة جنوب السودان بهذا الصدد مع التجاهل التام لتعليمات الرئيس أوباما ؛ ومن جانب ثان، فان إدارة الرئيس أوباما تبدو متعقلة الى أقصي حد في خطابها مع الخرطوم بصرف النظر عن الدوافع والأسباب ولكن في ذات الوقت تقف المندوبة رايس في مجلس الأمن بغاية الفظاظة والغلظة والتواطؤ على تجاهل شكوى حكومة السودان. ربما كانت رايس (ومن لف لفها) في إدارة أوباما يراهنون على نفاد صبر الحكومة السودانية وهو أمر وارد اذ أن الوالي أحمد هارون والي ولاية جنوب كردفان حذر رسمياً من أن معاودة المتمردين لهجماتهم على ولايته، بعد إقصائهم منها معناه ان حكومة جنوب السودان توفر لهم ملاذات آمنة وأن القانون الدولي يمنحهم الحق - كحكومة سودانية - بملاحقة المتمردين ومطاردتهم أينما كانوا. رايس ومن معها وحتى جوبا نفسها يبدو أنهم في إنتظار اضطرار السودان للجوء إلى هذا الخيار ومن ثم يوجه إليه الاتهام بأنه انتهك سيادة الأرض الجنوبية. من المؤكد أن هذه احدي أهم عناصر اللعبة ولهذا رأينا كيف تلكأت وسوف تظل تتلكأ الأممالمتحدة في نظر الشكوى حتى تكون هناك (شكوي أقوى) موازية لها من جانب حكومة الجنوب ليقرر مجلس الأمن حينها أن الطرفين مخطئين وأن الوسيلة الوحيدة لمعالجة الموقف هي باستجلاب قوات مراقبة تتمركز على الحدود على الأقل لحماية النازحين. أن الحكومة السودانية لا يبدو إنها غافلة لهذا السيناريو الماكر، وبالمقابل فان الجانب الجنوبي غابت عنه أهم عناصر اللعبة وهي أن تكون أرضه نظيفة وخالية من المتمردين وجبهته الداخلية قوية وأوضاعه الاقتصادية على ما يرام. لقد فاتت أهم عناصر اللعبة على جوبا!