لم تقف تعاسة قوي المعارضة السودانية المتمثلة فى حزب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي وبعض قوى اليسار عند حدود خسارتها لأحزاب لها وزنها التحقت بالحكومة العريضة التي تشكلت حديثاً تاركة إياها وحيدة في زمهرير الشتاء القارس. كما لم تقف عند حدود خسارتها الداوية – خاصة بالنسبة للشعبي – لغياب زعيم حركة العدل والمساواة الدارفورية المتمردة، أحد الأذرع التى كانت تمثل لها ورقة ضغط ورأس رمح فيما عُرف مؤخراً بالجبهة الثورية . الخسارة تمددت لتصل ذروتها حين تلقت هذه القوى هجوماً لاذعاً -صعب الإحتمال- من زعيم حزب الأمة القومي السيد الصادق المهدي بلغت صعوبة إحتماله وشدة ألمه ان دفعها الى الانسحاب من فعالية اعتصام كان يُراد تنفيذه في دار حزب الأمة بأم درمان وهم يغلوا من الغضب الشعور بالخيبة. المهدي وجّه نقداً لاذعاً لزيارة رئيس جمهورية جنوب السودان لإسرائيل وقال واصفاً إياها إنها (وراءها خائن وشيطان) وأنها ستحول طبيعة المنطقة الى مواجهة عربية إسرائيلية وتقطع العلاقة بين شمال وجنوب أفريقيا. و انتقد المهدي – بشدة – انطلاق ما يسمي بالجبهة الثورية من جنوب السودان بغية إسقاط السلطة الحاكمة فى الخرطوم ومعتبراً ذلك مهدداً للمنطقة كونه يفتح الباب على مصراعيه لحرب سودانية جنوبية. ولعل أولي الملاحظات على الموقف الذى اتخذته قوى المعارضة – الشعبي ورئيس الهيئة العامة لتحالف المعارضة فاروق ابو عيسي ، بالانسحاب من الاعتصام، أنهم اعتبروا نقد المهدي بمثابة (إحباط) لهمّة القوى المعارضة! ولعل وجه الغرابة فى هذه الملاحظة ان المنسحبين ليسوا بمواطنين جنوبيين حتي يتأثروا سلباً أو يغضبهم نقد المهدي لزيارة الرئيس الجنوبي الى اسرائيل؛ فلا المؤتمر الشعبي حزب جنوبي ولا تحالف المعارضة الذى يقف على رئاسة هيئته أبو عيسي تحالف جنوبي، ولهذا فإن السؤال البديهي هنا هو ما شأن انتقاد المهدي لزيارة الرئيس كير الي تل أبيب بهذه الأحزاب السودانية؟ هل لدي هذه الأحزاب السودانية المعارضة (برنامجاً سياسياً) يضع زيارة اسرائيل وإقامة علاقات معها ضمن أحدي أولوياتهم السياسية؟ هل تخلي الشعبي -على وجه الخصوص- عن كل أطروحاته الفكرية والسياسية ليصبح حزباً ( مؤيداً) و(داعماً) لإنشاء علاقات طبيعية مع اسرائيل؟ وإذا أجزنا لتحالف المعارضة الذي يترأسه ابو عيسي وهو من قوي اليسار حق إرتضاء إنشاء علاقة مع اسرائيل، هل أصبح الشعبي (تابعاً) لهذه الأحزاب فى أطروحاتها بشأن كل شيء بما فى ذلك إنشاء علاقة بإسرائيل. وإذا صرفنا النظر عن هذا الأمر وقلنا ان ما أغضب الشعبي وتحالف المعارضة هو حديث المهدي عن الجبهة الثورية، هل أصبح الشعبي يؤيد العمل المسلح ضد السلطة الحاكمة حتى ولو انطلق من دولة أجنبية؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل يتسق هذا الموقف مع قانون الأحزاب السياسية السوداني سنة 2007 الذى يحظر على الأحزاب التعامل بالسلاح أو تأييد العمل المسلح؟ من المؤكد ان الإجابة واضحة ومعروفة؛ إذ لا يجوز لأي حزب سياسي ان يعتمِد العنف وسيلة للوصول الى السلطة وإذا حدث ذلك فهو مشطوب لا محالة من سجل الأحزاب لمخالفته لصريح القانون. إذن أُفتضح الأمر ؛ قوي المعارضة أصبحت أسيرة لدولة أجنبية تغضب لما يُغضِب تلك الدولة وتأتمر بأمرها، وهى بهذه المثابة لم تلطخ ثيابها الوطنية بطين ووحل المستنقعات الجنوبية الآسنة فحسب، ولكنها وضعت حداً لعمرها السياسي، فالساحة السياسية السودانية ما عادت تحتمل أنصاف السودانيين الذين يتحدثون بلسان الآخرين ويفكرون بعقول الآخرين ويدعون – وفقاً لسحناتهم – أنهم وطنيون. ولربما لم يكن السيد الصادق المهدي يقصد فضح هؤلاء المنسحبين الغاضبين، وربما اعتبر الأمر نقداً سياسياً عادياً يتسع له صدر الباحثين عن الممارسة الديمقراطية وربما فوجئ المهدي بالمطالبين بالتحول الديمقراطي وهم يحولون وجوههم فى الاتجاه المعاكس للتحول الديمقراطي! لقد حشي السيد الصادق المهدي جراح المعارضة بالملح، فلا هُم احتملوا جراحهم ولا احتملوا الملح !