الدكتور حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي أنكر تماماً إتهام حزبه بالتحضير لإنقلاب عسكري ضد الحكومة السودانية الحالية. ليس ذلك فحسب ولكن د. الترابي نفي فى حديث للصحفيين - الأسبوع الماضي - مجرد تفكير حزبه فى الانقلاب. بالمقابل قال زعيم حزب الأمة القومي السيد الصادق المهدي إن الشعبي بزعامة الترابي سبق وأن وجّه لهم الدعوة فى حزب الأمة للمشاركة فى عمل انقلابي ضد السلطة الحاكمة، ولكنه - أى المهدي - رفض . وبذا أصبحت المعادلة هنا بالغة التعقيد؛ فنحن حيال حديثين متقاطعين حول شأن واحد، من المؤكد أن أحدهما يكذب. وبالطبع لا بُد من تمحيص هذين الموقفين بعناية لمحاولة الخروج بنتيجة على اعتبار أن قضية تغيير الحكومة الحالية عبر عمل انقلابي أو عمل مسلح، أو أى وسيلة أخري شأن يهم السودانيون لما قد يترتب عليه من مُترتبات ونتائج مؤثرة تتصل بأمن واستقرار البلاد أو تفتح الباب لتدخل خارجي أو تمنح بعض أعداء السودان سانحة نادرة لتحقيق ما ينشدونه. بدءاً لا بُد أن نستصحب معنا فى قراءة هذين التصريحين أنّ كلا الزعيمين -المهدي والترابي- يعارضان الحكومة الحالية ويتطلعان لتغييرها بصرف النظر هنا عما إذا كان ذاك ممكناً أم لا. كذلك لا بُد أن نستصحب أن للحزبين – الشعبي والأمة – تجربتين سابقتين على صعيدين ؛ صعيد العمل المسلح لإزالة سلطة حاكمة (الجبهة الوطنية 1976) والتي فشلت فشلاً ذريعاً يوم أن ردَّها نظام الرئيس الراحل نميري على أعقابها مخلِّفاً فيها جراحاً سياسية غائرة ؛ وصعيد العمل الانقلابي العسكري ، بالنسبة للشعبي (يونيو 1989) وبالنسبة للأمة (نوفمبر 1958) على الرغم من أن الأخير عُرف تاريخياً بأنه (مجرد عملية تسليم وتسلم) قام بها رئيس الوزراء المنتمي لحزب الأمة حينها الأميرلاي عبد الله خليل حين دعا الجيش بقيادة الفريق عبود لإستلام زمام الأمور والإمساك بالسلطة . المُهِم هنا، أنه فى الحالتين، تغيرَ النظام التعددي الذى كان موجوداً وأفضي الى وضع جديد. هذه الخلفية وهذه المُشتركات المثبتة تاريخياً ضرورية لمحاولة استقصاء ما إذا كان ما قاله الترابي صحيحاً أم أن الصحيح ما قاله المهدي؟ من الملاحظ هنا، أن الترابي هو الذى بادر بإنكار تفكير حزبه فى أى عمل انقلابي بعد أن حاصرته اتهامات حكومية، ومن ثم جاء حديث المهدي معقباً على الترابي ومؤكداً على صحة اتهامات الحكومة للترابي بالسعي لتدبير انقلاب. هذه النقطة مهمّة للغاية لعدد من الأسباب. أولاً أدراك المهدي أن إتهام الحكومة السودانية للشعبي بالتدبير لانقلاب مصدره الوثائق التى ضُبطت مع المسئول التنظيمي للحزب إبراهيم السنوسي وربما ايضاً ما أدلي به من أقوال لدي استجوابه - وما من شك هنا - أن المهدي أراد إستباق اى بذرة شك قد تنبُت فى صدر السلطة بشأن عِلمه أو مشاركته أو سكوته على انقلاب يدبره الشعبي ويجري التحضير له، وربما لهذا السبب - حسب تقديرنا - سارع بالكشف عن الاتصال الذى قام به الشعبي فى هذا الصدد بقطع الطريق على أى شكوك تحوم حوله، وهذا الموقف فى الواقع يدعم فرضية مصداقية المهدي بدرجة كبيرة كونه كشف عن الحقيقة فى وقتها المناسب. ثانياً، إدراك المهدي - من واقع تجربته مع الترابي - أن الأخير تدفعه غضبة خاصة حيال السلطة الحاكمة وبات كل هدفه هو إسقاطها ومن ثم لم يعد لديه ما يخسره، فى حين أن المهدي – رغم الكثير مما لحق به – كثير الجنوح الى الحوار والتفاوض وما يسميه هو (الجهاد المدني). ومع كل ذلك فإن فى السياسة يصعب إسباغ صفة الصدق أو الكذب هكذا إعتماداً على المعايير الاجتماعية المعتادة، ولكن القدر الكبير من التناقض والارتباك الذى شاب حديث الترابي وقد فقدَ خليل أحد وسائله الضاغطة الهامة وفقد السنوسي أحد محركاته المتصلة بالأطراف خارجياً وداخلياً، ووقعت وثائقه المُهمّة فى يد خصومه فى السلطة، وفقد صحيفته (رأي الشعب) عقب تجاوزها لكل الخطوط المعقولة، وفقد جزءاً مقدراً من قوى المعارضة (الاتحادي إلتحق بالسلطة) والأمة القومي (التحق بدرجة ما بالسلطة)، يجعل من وزن تصريحات الترابي جديرة بأن تُؤخذ بحذر بالغ؛ فالرجل فى ظروف دقيقة ويكاد يفقد كل شيء, وإن تظاهر بغير ذلك. وهى ظروف من الصعب على أى مراقب سياسي أن يعزلها عن محيطها الدائرة فيه. وعلى هذا الأساس فإن الترابي قال ما قاله وهو تحت ضغط نفسي وظرفي وسياسي بالغ، فى حين أن المهدي ليس واقعاً تحت ذات القدر من الضغط. الترابي لم يستطع إنكار صلة حزبه بالوثائق المضبوطة مع مسئوله التنظيمي السنوسي ولكنه فشل فى تبريرها ولم يجد مخرجاً سوي القول إنها مسروقة! دون أن يحدد السارق والمكان الذى سُرقت منه ولماذا وكيف سُرقت بالتزامن مع اعتقال السنوسي؟ بناء على كل ذلك فقد بات من السهل معرفة مَن (الصادق) ؛ ويبقي على الأذكياء أن يستنتجوا من الكاذب!!