حادثة الهجوم العنيف الذي شنه القيادي الطالبى بحزب البعث محمد البوشى، قبل نحو شهر خلال الندوة الشهيرة التي عُقدت حينها في جامعة الخرطوم، وكال فيها من عبارات التجريح السياسي ومحاولته لجر نائب رئيس المؤتمر الوطني الدكتور نافع علي نافع، للدخول في مهاترات ومزايدات سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع، ومحاولة حزبه – البعث – لتصوير اعتقاله الأخير قبل إطلاق سراحه الأسبوع المنصرم وربطه بتلك الحادثة الشهيرة، هذه الحادثة تٌعزي المراقبين لإعادة التنقيب عن حزب البعث السوداني الذي يبحث بكل السبل له عن مؤطيء قدم في الساحة السياسية بعد مرور أكثر من (50) عاماً علي دخوله معترك السياسية السودانية ولم يصب منها حظاً غير تحالفات يسارية عرجاء لم تحقق له غير ابتعاد أكثر من ملامسة واقع المواطن السوداني الذي لم تعد مصطلحات ك(القومية والاشتراكية) تجدي معه نفعاً في ظل ازدياد متطلبات الحياة اليومية وضرورياتها، مما يتطلب برنامجاً حزبياً يلبيها، وهو الأمر الذي ظل بعث السودان يتجاهله سنيناً عدداً.. خروج الحزب عن دائرة اهتمام المواطن اليومية جعله يسجل الفشل السياسي تلو الآخر(بدأه صدام حسين في العراق) ، ليستعيض الحزب عن ذلك بالإمساك بزمام السلطة وفق نظرية الحديد والنار. والمعروف أن "حزب البعث السوداني " كان جزءا ًمن المنظومة البعثية التي تضم أيضاً بعث العراق وغيره بقيادتها القومية في دمشق. والبعث السوداني ولد نتيجة انفصال مجموعة (كبيرة) من أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي عن تلك المنظومة عام1997م وهو انفصالٌ كانت في ورائه القريب اختلافات حول كيفية التعامل مع الواقع السياسي السوداني نبعت من إحساس في ورائه البعيد بأهمية إعادة إنتاج الفكر والتجربة البعثيين بمفردات الوقع السوداني، اختبار ُمنطلقات ومقولات حزب البعث المشرقية (سورية – عراقية) في تفاعلها مع واقع سوداني عربي، بمعني من المعاني، بطريقته وقسماته الخاصة. النقلة النوعية في العمل القومي العربي السوداني الحديث تحققت عندما التقت المجموعة الأساسية من جامعة القاهرة فرع الخرطوم بمجموعة صغيرة في جامعة الخرطوم.خلال شهر العسل القصير بين حزب البعث العربي الاشتراكي والناصرية (56- 1960) حيث كان المناخ حينها صافياً ومبشراً بإيناع بهيج للغرسة الوليدة تستقي من فكر البعث وشعبية الناصرية، ولكن تداعيات الطلاق غير الودي بينهما لم تلبث أن وصلت الساحة السودانية فوجدت المجموعة نفسها موزعة الجهود علي أكثر من جبهة لاسيما وأنها انخرطت منذ البداية بقوة في المعركة ضد ثورة نوفمبر1958م. ومع بدايات تسعينات القرن المنصرم جاء أهم حدث ليشكِّّل علامة فارقة في تاريخ حزب البعث هو حادثة طرده من التجمع الوطني الديمقراطي المعارض بسبب تباين موقف الطرفين من أزمة الخليج، وحادثة طرده هذه هي التي أدت لاحقا لأخطر انشقاق حدث في هياكل حزب البعث والتي لا يزال يعيش أثارها حتى الآن.فقد تمسك حزب البعث فرع الداخل بعضويته للتجمع مع احتفاظه بوسائله الخاصة في النضال والمقاومة ضد النظام. أما الذي ظل بالخارج فقد فضّل العمل لوحده مفضلاً التنسيق ومواصلة النضال القومي العربي من أجل قضية العراق. ولكن لاحقاً وبسبب الاختلاف حول وضعية الحزب داخل التجمع ومعارضته لمبدأ تقرير المصير الذي أقرته القوي السياسية لجنوب السودان في ما عُرف بمقررات أسمرا للقضايا المصيرية في العام 1995م والتي عارضها حزب البعث كلية بسبب عدم انسجامها مع برنامجه القومي والذي يعارض تقسيم الدول العربية حتى لا تزداد بُعداً عن الوحدة التي يدعو لها .. حدث انشقاق خطير داخل الحزب وانقسم إلي جناحين أحدهما يقوده القيادي محمد علي جادين والأخر يقوده القيادي أبو رأس، وهذا الانشقاق لم يحدث علي المستوي القيادي فحسب، بل امتد إلي القيادات والكوادر الوسيطة في الحزب. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطور إلي أسوأ من ذلك إذ أن جناح جادين نفسه والذي يمثّل بعضوية في التجمع حدثت به تصدعات أخري حينما طالبت بعض القيادات الوسيطة بمحاسبة جادين حول بنود دعم مالي خارجي مع اتهامات أنه بدّد هذا الدعم، إلا أن جادين رفض مبدأ أن يحاسبه من هو أقل مرتبة تنظيمية منه فازدادت حدة الخلاف. وآخر المطاف قررت مجموعة من داخل جناح جادين ولحسابات أخري خاصة بها عزله عن قيادة الحزب ثم أعلنت رفضها لكل قرارات القيادة القومية والقطرية بخصوص الخلافات وكونت ما يُعرف بحزب البعث وقامت بعدة مبادرات في هذا الخصوص لترتيب البيت القومي بمبادرة من إحدي النساء القوميات حيث حاولت توحيد حزب البعث ومنظومة أنا السودان التي تتبع للقيادة القومية في سوريا وأيضاً الناصرين وبقية القوميين العرب. وقد نجح هذا المسعى وحقق العديد من النجاحات التي أعلنت اعترافها بحزب البعث السوداني، كما حدث اعتراف به أيضاً من القيادة القومية في سوريا والتي أمرت منظومة أنا السودان التابعة لها بإكمال الاندماج مع حزب البعث السوداني والذي أصبح لا تربطه أي علاقة بقيادة بغداد أو بحزب البعث العربي الاشتراكي الموجود أصلاً في الساحة المشكلة الآن التي تواجه البعثيين ككل هي صعوبة التوحُد مرة أخري في حزب موحّد لمواجهة الفترة القادمة وتوحيد القواعد والكوادر التي أصبحت حائرة في ما تفعله حيال تقلبات قياداتها وجُل هذه الكوادر الوسيطة والأقل منها تعتقد أن إخفاءً معتمداً للحقائق قد حدث مما جعل الرؤية تبدو ضبابية وغير واضحة للكثير من الأعضاء خاصة مع محاولات الاستقطاب الحادة التي حدثت في وسطهم. وبرزت تلك الخلافات بصورة واضحة في انتخابات الجامعات الأخيرة حيث ظهر جناحان لحزب البعث في قائمتين متنافستين وبذا بدأ واضحاً أن الأمور تسير من سيء إلي أسوا. عموماً فالشواهد والممارسات السياسية لحزب البعث في كل تجاربه مع السلطة (العراق) تؤكد إهمال الحزب خلال عقود طويلة مسألة تطوير السلطة والانتقال من الدولة القطرية إلي الدولة الوطنية الحديثة أي دولة مواطنيها جميعاً وذلك من خلال دستور يضمن التعددية السياسية وحق تأسيس الأحزاب وحق التعبير عن الرأي وحرية إصدار الصحف وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التنمية المستدامة والتوزيع العادل للدخل الوطني وإشراك المرأة في كل الحقوق والواجبات، وغير ذلك مما تتطلبه الدولة الوطنية الحديثة المعاصرة وفي الدولة الوطنية الحديثة لا يُظلم أحد. فالانتماء للوطن وتكافؤ الفرص هو الفيصل في الأمر ويتطلب مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية والنزاهة وتامين قضاء عادل ونظام تعليمي حديث يتيح للشباب التوالي في الأجيال والسلطة التداول دون احتكار أوتسلط من أحد. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 23/1/2012 م