.ليس من ديمقراطيّ يملك أن يجادل في أن نظم الحكم العربية القائمة أضافت إلى تراثها في تقديس التجزئة ومناهضة الوحدة، وفي الإيغال في التبعيّة للأجنبي في القرار الاقتصادي والسياسي، وفي اللامبالاة الكاملة أمام الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وفي الفشل الذريع في حماية الأمن الوطني والقومي من الاستباحة الخارجية . .، (أضافت إلى ذلك كله) الاستبدادَ والتسلّط، وإعدام الحياة السياسية . لا عجب، إذاً، أن تندلع ثورات وانتفاضات تطالب بالحرية والديمقراطية، وإسقاط الفساد ورموزه الحاكمة، في غير بلد من بلدان عرب اليوم . وليس لأحد منّا أن يجادل في حق الشعوب العربية، غير القابل للتفويت، في تغيير أنظمتها بالوسائل السلمية إن هي قررت ذلك وأرادته، مثلما حصل في بلدان ويحصل في أخرى اليوم، فالشعوب هي مصدر السلطة، كما تقرر الديمقراطيات الحديثة، وهي وحدها من يملك تقرير مصيره بنفسه، وليس لجهة خارجية أن تنوب منابها في تغيير أوضاعها السياسية، باسم أي مبدأ وتحت أي عنوان، لأن النيابة عنها في ذلك يسقط أهم مبدأ تقوم عليه شخصية الشعب، أي شعب، وهو السيادة التي لا تقبل التفويت، إلا حين تُصادر، فيفقد الشعب والدولة استقلالهما، ويصبحان تحت أحكام وصاية أجنبي . وليس لدينا من شك في أن شعوبنا لا تريد أن تتخلص من طغاتها بأي ثمن، كما تنطق بذلك ألسنة معارضة بائسة، لأن استقلال الوطن وسيادته من مقدسات السياسة غير القابلة للانتهاك، أو للمساومة عليها ولو باسم التخلص من الاستبداد . على أن هناك فرقاً بين شعب يثور في وجه نظامه المستبد، سعياً إلى التخلص من عسفه، وانتزاع حريته المصادرة، وبين معارضة حزبية تركب صهوة ثورته، وتُمسك بزمامها، وتأخذها إلى حيث تشاء هي لا إلى حيث يشاء الشعب من أهداف، من دون أن تنسى طبعاً إشاعة الوهم بأن مطالبها ليست سوى مطالب الشعب، وخياراتها في العمل وأساليبها فيه لا تعدو أن تكون استجابة لإرادة الشعب . ومع أننا نفهم أن هذه هي، دائماً، دعوى كل معارضة سياسية تبحث لوجودها عمّا يبرره، وتسعى إلى حيازة مشروعية شعبية أو سياسية، فإن هذه الدعوى نادراً ما تكون صادقة أو صحيحة، ثم إنها في الأعم الأغلب من أحوالها تشبه دعوى النخب الحاكمة المستبدة بأنها تحكم باسم الشعب، وبمقتضى إرادته، وتعبّر عن مصلحته . غير أن الإنصاف يقتضينا التمييز بين نوعين من المعارضة متمايزين في الطبيعة والمضمون، بين معارضة تتوسل شعبها، وقواه الذاتية، في إنجاز عملية التغيير، وأخرى لا يضيرها، في شيء، أن تتوسل الأجنبي وتحالفه، وتراهن عليه “مخلصاً" و"منقذاً" . فضيلة النوع الأول من المعارضة وطنيته، أو قل قيام موقفه الديمقراطي على مبدأ وطني، ومضمون وطني، وهو ما لا يقيم له الثاني اعتباراً، ولا يخجله أن يؤاخذ عليه من أحد، حتى من الشعب . وقد يكون على المعارضة الوطنية أن تتكلف ثمناً غالياً من أجل التغيير، أقل بكثير من المعارضة المراهنة على الأجنبي، لأن إمكانات الشعب المدنية دون إمكانات الأجنبي بكثير، إلا أنه الثمن الهيّن الذي يرتضي كل معارض وطني أن يدفعه لقاء الحفاظ على حرية الوطن، واستقلاله، وسيادته . ومن أسف أن هذه المدرسة من المعارضة الوطنية بدأت تقل وزناً، في الوطن العربي، وتخفت صوتاً، في السنوات العشر الأخيرة، مقابل اتساع نطاق المعارضة الثانية، وفشو خطابها، وهيمنة قيمها السياسية غير المألوفة! وإذا كان مما يفسر ذلك أن اختراقاً سياسياً أجنبياً ناجحاً لمجتمعاتنا، وأحزابنا، ونخبنا، حصل في الفترة الماضية، فأثمر ثمراته المرة في “الثقافة الحزبية" للمعارضة، وكرّس مفاعيله اختراقٌ ماليّ رديف، فإن ما يفسره أيضاً ضعف المضمون الوطني لتلك “الثقافة السياسية" وهشاشته المخيفة، فلولا تلك القابلية لاستقبال الأثر الأجنبي، لما كان لذلك الأثر مفعول في قلب مجتمعاتنا السياسية، ولما تدافعت الأحزاب والنخب بالمناكب لعرض خدماتها للسيّد الأجنبي . وقد يكون بعض تلك القابلية نضج في الداخل الوطني، من خلال عمليات الترويض والتدجين التي خضعت لها النخب - السياسية والثقافية - من طرف النظام القائم . كما قد يكون بعضها من آثار إقامة في الخارج استُدْرِج فيها من استُدرِج للعمل ضمن أجندات الدول التي يقيم على أراضيها، أو يحمل جنسيتها . في كل حال، إذا كان ركوب المعارضات الوطنية على صهوة نضالات الشعب، واستغلالها، وحتى مصادرتها، لمصلحة خياراتها السياسية كمعارضات، هو مما يستحق النقد الشديد، والملامة، والاحتجاج السياسي الجهير، لما ينطوي عليه ذلك الركوب من خطر سرقة عرق الشعب السياسي، فإن ركوب المعارضات المتحالفة مع الأجنبي، والساعية إلى استقدامه، موجة تلك النضالات، وتوجيهها نحو أهداف تنال من استقلال الوطن وسيادته، هو مما يستحق الإدانه، والنفرة الجماعية ضده، من كل ذوي الضمائر الوطنية الحية . المصدر: الخليج الإماراتية 30/1/2012م