إحدى طرق القرون الوسطى التقليدية لدعوة الخصوم إلى النزال الفردي في ساحة المعركة، هي أن يحمل أحد القادة أو الفرسان البارزين سيفه أو رمحه أو فأسه، ويتبختر بها راكباً أو راجلاً أمام صفوف جيشه، ليستفز فرسان جيش الخصم بهذه المشية الواثقة والدعوة الصريحة لخوض منازلة، مشية تنتهي عَادةً بخروج فارس من الطرف الآخر، ونشوب منازلة لا تنتهي إلاّ بمقتل أحد طرفيها، ومنح أفضلية معنوية لمعسكر القاتل على معسكر المقتول. مشية الحرب التي يمشيها سلفا كير ميارديت رئيس جمهورية جنوب السودان بدأت بحسب البعض منذ احتفاله باستقلال بلاده عن السودان كما يؤكد البعض، عندما رفع صوته مخاطباً مواطني جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور قائلاً: لن ننساكم، دون أن يولي كثير عناية لمشاعر ضيف الاحتفالية، المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس جمهورية السودان. =سرعان ما تحوّلت تلك المشية الحربية السلفا كيرية من كلمات ووعود مطلقة في سماء الاحتفال بالاستقلال إلى طلقات بنادق ودوي مدافع في جنوب كردفان ثم في النيل الأزرق لاحقاً، فمشى سلفا كير مشية الحرب داخل حدود خصومه الشماليين، مشية اعتمدت على ساقين، الجنرال عبد العزيز آدم الحلو في جنوب كردفان والجنرال مالك عقار في النيل الأزرق. إصدار سلفا كير أوامره لمساعديه بإحكام إغلاق آبار النفط، في نظر كثير من المراقبين، ليس سوى إعلاناً رسمياً ينذر بنشوب حرب، فالنفط، كما هو معلوم، مصدر الدخل الرئيسي لحكومة جمهورية السودان القديم، ومصدر دولارات أساسي لحكومة السودان (الجديد) بعد الانفصال كذلك، ما يجعل قرار الجنوب وقف ضخ النفط تهديداً مباشراً لمصالح حكومة الشمال، وبداية حرب اقتصادية، ومحاولة لدق مسمار في نعش الإنقاذيين السياسي. وأخيراً، أعطى الجنرال صاحب القبعات السوداء أوامره لجنوده بالإنتشار على طول حدوده مع الشمال، وأعلن درجة الاستعداد القصوى وسط كل الوحدات العسكرية للجيش الشعبي، واتهم البشير في تصريحات نقلتها صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية أمس، بحشد قواته على حدود دولة الجنوب بهدف إعادة ضمها إلى دولة جنوب السودان بالقوة بعد أن فقد النفط. كل من الشمال والجنوب في واقع الأمر، يتهم الطرف الآخر بمحاولة استفزازه وأنه يمشي مشية الحرب، فجوبا تتهم الخرطوم بدعم المليشيات المسلحة المتمردة على سلطانها، واتهمتها كذلك بسرقة نفطها، ومحاولة فرض رسوم باهظة مقابل تصدير النفط، في المقابل، تتهم الخرطومجوبا بالوقوف وراء حركات التمرد المسلحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، ومحاولة إسقاط الحكومة عبر إيقاف ضخ النفط، فَضْلاً عن عدم الرغبة في إبرام اتفاق بشأن أي من القضايا العالقة منذ مرحلة ما قبل الاستفتاء. احتمالات اندلاع حرب مُباشرة بين الشمال والجنوب تصاعدت اخيراً عقب تصريحات الرئيس البشير بأن البلدين أقرب إلى الحرب من قربهما للسلام، وتعبيره عن اعتقاده بأن الجنوبيين غير راغبين في تسوية قضية النفط، لتأتي إتهامات سلفا كير وإصداره أوامره بنشر قوات الجيش الشعبي على الحدود مع الشمال كخطوة تصعيد إضافية، تضع الجيشين وجهاً لوجه، ليس في منطقة أبيي وحدها، بل على طول الحدود المتنازع عليها. اللاعبان الدوليان الرئيسيان في السودان، الولاياتالمتحدة وجمهورية الصين الشعبية، لا تبدوان سعيدتين بما يجري، أو راغبتين في رؤية حرب جديدة، فالصين دعت الجانبين عدة مرات إلى مواصلة المفاوضات على القضايا الخلافية حتى الوصول إلى حلول تخدم مصالحهما المشتركة، في المقابل تبدو الولاياتالمتحدة منشغلة أكثر بالانتخابات الرئاسية التي ستقام نهاية العام الحالي، والأزمة الاقتصادية الأوروبية، والأوضاع السياسية الساخنة في الشرق الأوسط، كالوضع المشتعل في سوريا واحتمالات الانزلاق إلى مواجهة شاملة مع إيران. إقدام الجنرال سلفا كير على نشر قواته على طول حدود دولته الوليدة مع الشمال يرى فيه البعض مجرد خطوة رمزية عاجزة عن تغيير الموازين على الأرض، تنم عن الشعور باليأس، ويقول الفريق عبد الرحمن حسن عمر الخبير العسكري والمحافظ السابق لمنطقة أبيي إن نشر قوات الجيش الشعبي على الحدود يأتي في وقت تواجه فيه دولة الجنوب عدة حركات تمرد مسلحة، وفشلاً في سياساتها الداخلية، وتحاول جوبا أن تجد في الخلافات مع الشمال حول البترول مخرجاً من الصراعات الداخلية، ويتابع: دولة الجنوب غير قادرة على خوض أي حرب مع أية دولة مجاورة، ناهيك عن خوض حرب مع السودان، فجيشها غير مترابط وغير متماسك ولديه خللٌ في إدارة شؤون الحرب، والحكومة الجنوبية تتشكل من إثنيات مسيطرة كالدينكا والنوير وإثنيات في الرصيف كالقبائل الإستوائية والقبائل الصغيرة، ولقد جرّبوا من قبل نشر قواتهم في أبيي وفشلوا في تحقيق أية أهداف، وحاولوا مساعدة قوات الحركة الشعبية في جنوب كردفان وتم دحرهم، وزيارة سلفا الأخيرة لأمريكا لم تحقق أهدافها، كما أن الجنوب يمر بمجاعة طاحنة، لذلك تُعتبر خطوة سلفا الأخيرة خطوة يائسة، قد تجذب الإنتباه الإعلامي أكثر من تشكيلها خطراً عسكرياً. رغم أنه اشتهر بالهدوء والغموض الذي يلف قبعته، شأنه شأن الكثير من الجنرالات والقادة العسكريين، إلاّ أنّ الفريق أول سلفا، ضابط الاستخبارات السابق وعضو هيئة القيادة العسكرية العليا للحركة الشعبية منذ الثمانينات، ورئيسها وقائد جيشها الحالي، رئيس جمهورية جنوب السودان، بات يظهر توتره ويخرج مخاوفه للعلن أكثر من ذي قبل خلال الآونة الأخيرة، ويفاجئ المتابعين بتصريحات أو طلبات غير متوقّعة، في التوقيت غير المتوقع بالذات، مثلما فعل عندما قال إنه يَخشَى التعرض لمحاولة اغتيال يدبرها ضده الشمال، أو عندما طلب تدخلاً دولياً أتبعه بطلب قدمه لمجلس الأمن بنشر قوات دولية بين الشمال والجنوب، طلبات أتت قبل الاستفتاء، أما آخر طلبات الجنرال اللافتة عقب الانفصال، فكانت الطلب من الرئيس الأمريكي باراك أوباما فرض حظر جوي فوق الحدود مع الشمال، ما يدفع كثيرين لقراءة مواقف سلفا كير المتشددة هذه الأيام بأسلوب مختلف، أسلوب تصبح معه مشية الحرب التي يمشيها الجنرال طريقة تعبير عن المخاوف والقلق، أكثر من كونها تعبيراً عن الثقة والرغبة العارمة في الحرب مع الشمال.. نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 8/2/2012م