تشهد الساحة السودانية حراكا سياسيا يتركز حول مسألتين أساسيتين، الأولى هي الانتخابات الرئاسية والتشريعية والولائية المقرر إجراؤها في شهر نيسان/ إبريل المقبل وهي أول انتخابات تعددية تجرى في البلاد منذ أربعة وعشرين عاما، والثانية محاولة توحيد فصائل الحركات المسلحة في دارفور من أجل اتخاذ موقف موحد في التفاوض مع الحكومة، وعلى الرغم من أن الموضوعين يبدوان وكأنهما مستقلان عن بعضهما بعضا فإن الظاهر هو أن التحرك في الاتجاهين يقع تحت رؤية سياسية موحدة تسعى الحكومة السودانية لتحقيقها، ذلك ما سنحاول أن نتبينه من خلال بحثنا في موضوع التوحيد والانتخابات. فإذا توقفنا في موضوع الانتخابات كان السؤال الأساسي هو لماذا قررت الحكومة فجأة إجراء انتخابات تعددية في البلاد؟ ولماذا تجرى هذه الانتخابات قبل أقل من عام من الاستفتاء المقرر إجراؤه للبحث في تقرير مصير الجنوب؟ وما موقف أحزاب المعارضة من هذه الانتخابات؟ وسوف نؤجل الحديث قليلا في موضوع إستراتيجية الحكومة من وراء هذه الانتخابات ونركز في البداية على المواقف المختلفة منها لنرى ما إذا كانت هناك رؤية موحدة تجمع أهل السودان حولها، ويستوقفنا في البداية موقفا الحزب الإتحادي الديمقراطي بقيادة السيد محمد عثمان الميرغني وحزب الأمة بقيادة السيد الصادق المهدي، وعلى الرغم من أن حزب الأمة يتخذ موقفا متحفظا من الانتخابات فإن الحزب الاتحادي الد يمقراطي أعلن على لسان زعيمه السيد محمد عثمان الميرغني أنه لا يعتزم ترشيح شخص لمنصب رئيس الجمهورية وأن الحزب يؤيد تأييد ترشيح الرئيس البشير لولاية جديدة إلا أن ذلك بالطبع قد لا يكون موقف الحزبين في الترشيحات الأخرى التي تتعلق بالمواقع التشريعية والولائية، أما بالنسبة للحزب الشيوعي فقد أعلن انه يعتزم ترشيح زعيمه محمد إبراهيم نقد لمنصب الرئيس، ولا يبدو على أي حال أن هناك فرصة لمرشح الحزب الشيوعي أن يفوز بمنصب رئيس السودان. ونرى في ضوء ذلك أن المشهد السياسي في شمال السودان يتسم بالهدوء والترقب إذ لا تعول الأحزاب التقليدية كثيرا على ما قد تسفر عنه هذه الانتخابات. غير أن الموقف يبدو أكثر تعقيدا عندما ننظر إلى موقف الجنوبيين من انتخابات نيسان/ إبريل، فالملاحظ أن القيادات الجنوبية لم تكن جادة في التعامل مع انتخاب رئيس الجمهورية، وذلك حين رشحت الشمالي ياسر عرمان لهذا المنصب بينما اكتفى سلفا كير نائب رئيس الجمهورية بالإعلان أنه سيرشح نفسه لمنصب رئيس الجنوب، ولم يأت موقف الجنوبيين من ياسر عرمان دليلا على أنهم قد تخلوا عن حساسياتهم تجاه الشمال بل هو يعكس الموقف الحقيقي للقيادة الجنوبية تجاه وحدة البلاد، ذلك أن الحركة الشعبية تعلم أن الترشيح لمنصب الرئيس في هذه المرحلة قد لا يكون ملائما في وقت لم يبق فيه للاستفتاء على استقلال الجنوب سوى اقل من عام والتوقعات كلها تذهب إلى أن الجنوبيين سوف يختارون الإنفصال، فهل كان من الممكن أن توافق الحركة الشعبية على الحصول على منصب الرئيس لتفاجأ في الاستفتاء بأن المواطنين في الجنوب يختارون الإنفصال؟ ذلك هو السبب الأساسي في رفض الحركة الشعبية التعامل بصورة جدية مع الانتخابات التي تجرى في شمال السودان، ولا نريد هنا أن نتوقف عند الخلافات التي بدأت تظهر في جنوب السودان ومنها ترشيح لام أكول وزير الخارجية السابق والذي يرأس جناحا منشقا عن الحركة الشعبية نفسه رئيسا لإقليم الجنوب، ويتضح من ذلك أن الانتخابات سوف تفجر خلافات عميقة بين الشمال والجنوب هناك أسباب قوية لوجودها. فإذا توقفنا نتساءل عن علامات الاستفهام حول هذه الانتخابات فسنجد أنفسنا أمام مطالبة الحكومة للناس بإلغاء الذاكرة، إذ ماذا تعني انتخابات تعددية في نظام حكم تأسس على فلسفة سياسية محددة بصرف النظر عن نجاحه في تحقيقها أو عدم نجاحه، كما أن النظام وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري، فهو قد جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري في عام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين، وظل يحكم البلاد بكوادره منذ ذلك الوقت، ولم يغير هذه الكوادر ويريد الآن أن يجري انتخابات في إطار النظام القائم مع فرقاء قد تختلف نظرتهم ومواقفهم السياسية عن رؤية النظام، فهل يستقيم ذلك؟ الإجابة المنطقية هي أن قبول هذا الوضع يعني إعطاء النظام مشروعية قد لا تؤيدها المعارضة، ولن يخدم ذلك بالتأكيد اهدافها، ولكنه ربما يخدم أهداف النظام بتقديمه إلى العالم الخارجي، الذي يواصل الضغط عليه، على انه نظام يقوم على إرادة شعبية، ولا نريد هنا أن نحدد موقفا من طبيعة النظام ذاته، ذلك أن ما نهدف إليه هو التحليل فقط من أجل التنبه للخيارات الأخرى الممكنة لغرض تجنيب البلاد أخطار الإنقسام الذي يعرض وحدة البلاد إلى الخطر، وكنت قد كتبت من قبل مفرقا بين نظام الدولة ونظام الحكومة وقلت إن نظام الدولة يجعل القانون والمؤسسات فوق تطلعات الحكام بينما نظم الحكومات تجعل إرادة الحكام فوق القانون ونظم المؤسسات، ووفقا لهذه الرؤية أريد أن تكون التوجهات السياسية في السودان قائمة على المصالح العليا للبلاد. وهذا ما لا أراه في الوقت الحاضر في الشمال او الجنوب، ذلك أن الساسة في جنوب السودان لا ينظرون إلى الحقائق الجغرافية لهذه البلاد الشاسعة وكل ما يركزون عليه هو تحقيق طموحات المثقفين في إقامة دولة مستقلة يسيطرون عليها. كما أن الساسة في شمال السودان لم يحاولوا على الإطلاق أن يقيموا نظاما سياسيا متعددا يستند على القوانين والنظم المؤسسية وإنما ظلوا يداورون الحكم بين أنظمة عسكرية وأخرى طائفية ولم يحفلوا بتطلعات شعب السودان الذي بلغ درجة عالية من الوعي السياسي تجعله لا يقبل هذا الأسلوب النمطي في إدارة الحكم. وإذا نظرنا في الوقت الحاضر إلى الجهود التي تتابع من أجل توحيد فصائل دارفور المسلحة بغية تحديد موقف موحد للتفاوض مع الحكومة وجدنا أنها لم تخرج عن هذه النظرة العامة، وهي جهود لن تحقق النجاح الكامل ما لم تكن هناك رؤية شاملة لحل مشاكل البلاد، ذلك أن مشكلة دارفور انطلقت بعد توقيع اتفاقية نيفاشا التي رأى متمردو دارفور أن بإمكانهم أن يحققوا نجاحا شبيها بما حققه الجنوبيون في نيفاشا وهم لن يخرجوا من موقفهم هذا ما لم يحدث تغير أساسي في موقف الحركة الشعبية في جنوب السودان، فهل نتوقع من متمردي دارفور أن يسعوا نحو الوحدة إذا جاءت نتائج الاستفتاء في جنوب السودان في العام المقبل لصالح الانفصال؟ لن يحدث ذلك وسيتولد عند ذاك طموح لدى حركات التمرد في دارفور بأن تؤسس دولة شبيهة بدولة جنوب السودان. ولا شك أن الكثيرين في شمال البلاد قد سئموا هذه الحلقة المفرغة من الصراع وبدأ الكثيرون يتحدثون بغير اهتمام عن تطورات الموقف في جنوب السودان وهم يقولون علنا إذا أراد الجنوب الانفصال فليكن ذلك خياره ولكن المسألة ليست بهذه البساطة لأن الوضع في السودان ليس كذلك. إذ لا يتعلق الأمر فقط بحرية المواطنين في الأقاليم المختلفة في اختيار ما يريدونه من نظم الحكم بل يتعلق بواقعية حكم بلد مغلق جغرافيا كالسودان، كما أن قيام نظم دكتاتورية تستند على طموحات المثقفين قد تولد في المستقبل صراعات دموية تعاني منها البلاد، والسؤال هو كيف يمكن الخروج من هذا المأزق، والإجابة عندي هي ما ذهب إليه السيد الصادق المهدي في موقف سابق عندما دعا إلى مؤتمر مائدة مستديرة تجلس فيه سائر الأطراف وتقرر موقفا موحدا حول مستقبل البلاد، ولاشك أن مثل هذا المؤتمر سيكون أكثر جدوى من انتخابات تعددية أو محاولات في كسب مواقف المعارضين لأغراض سياسية محدودة بينما تبقى القضايا السياسية الرئيسية عالقة دون حل. كاتب من السودان المصدر: القدس العربي 21/1/2010