التطورات ذات الصلة بالعلاقات مع الدولة الناشئة (دولة الجنوب) تتلاحق مع تدخلات إقليمية ودولية من أجل الحيلولة دون اشتعال النيران على امتداد أطول حدود (2000 كيلو متر) بين الدولتين السودان والجنوب. ويفترض استئناف المفاوضات بين وفدي الخرطوموجوبا في أديس أبابا غداً الثلاثاء. والتحليل السياسي كتب قبل المستجدات الأخيرة. ويظل التحذير القوى الذي أطلق قبل ستين سنة قائماً ومائلاً ومطلوباً الالتفات إليه تماماً في حالة التفاوض والسلم والحرب. الخرطوم بإرثها وعراقتها مطلوب منها التعامل بحكمة وحذر مع دولة لم تبلغ بعد عامها الأول. ما حدث في أعقاب إجبار الجيش السوداني لقوات حكومة جوبا على الانسحاب من منطقة هجليج وما طالعته من تقارير وما سمعته من شهادات مهندسين دخلوا هجليج مباشرة بعد إخلاء المعتدين يؤكد بشكل قاطع صحة التنبيه والتحذير الذي أطلقه قبل أكثر من 60 سنة الإداري والدبلوماسي محمد عثمان يس لرئيس أول حكومة وطنية الزعيم إسماعيل الأزهري بان سكان الجنوب غير أهل الشمال، فأهل الشمال بحكم الدين والقيم والحضارة قادرون على النسيان وتجاوز الماضي والتسامح والتطلع إلى الأمام، أما سكان الجنوب بحكم البيئة والبدائية في الغابات والأدغال فأنهم لا ينسون، ويتوارثون الكراهية، وتعاقب الزمن لا يزيدهم إلا حقداً ومرارات وغدرا، جاء هذا التحذير القوى المباشر في أعقاب التمرد الدموي في أغسطس 1955 حيث استخدم الجنوبيون البنادق والحراب في قتل الإداريين والمعلمين والفنيين والتجار الشماليين ومعهم أسرهم وأطفالهم، وقدر تقرير قضائي عدد ألقتلي الشماليين بنحو 350، ولكن شهادات لاحقة كشفت عن قتل كثيرين رجالاً ونساء وأطفالاً ودفنوا في مقابر جماعية في وسط الغابات والأدغال، كان الإداري والدبلوماسي الحكيم الذي عاش في الجنوب وعرف سكانه وعاداتهم وأعرافهم يطلب وقبل أكثر من 60 سنة توخي الحذر من غدر وكراهية سكان أدغال الجنوب، وعلى مدي هذه السنوات الطويلة تتأكد هذه الحقيقة، والتقدم إلى النهج الدموي والتدميري والحرائقي لحركات التمرد من انانيا (1) إلى انانيا (2) في الخمسينات والستينات، إلى الحركة الشعبية في الثمانينات وحتى عام 2003 فانهم كانوا يستهدفون المنشآت والمراكز الصحية ومحطات المياه والمكاتب والمدارس واحياناً احياء سكنية لانها نفذها شماليون، كانوا يعتبرون أن تدمير وحرق المنشآت يؤجع قلوب الشماليين لأنهم وحدهم الذين خططوا وبنوا ودفعوا ثمنها، وانظر لما فعلته الحركة الشعبية في بدايات حربها صيف 1983 فشنت الهجمات علي العاملين والفرنسيين الذين رسا عليهم عطاء إقامة أكبر خزان أو سد جونقلي الذي خطط واعد دراساته أولاً الإنجليز أبان وجودهم وحكمهم للسودان ثم راجعه وأكمله المهندسون السودانيون وبلغ من جودة وكفاءة تصميمه الهندسي وجدواه أن البنك الدولي قرر المشاركة في تمويله وقيامه، ومع ذلك أوقفته هجمات وغارات الحركة الشعبية لكي لا يقال أن الشمال وحده صمم ونفذ وأقام أكبر سد للري والكهرباء في الجنوب وأفريقيا كلها، وكذلك أوقفت الحركة الشعبية استخراج النفط وأغلقت الشركات الأمريكية الآبار لأنه قد يخدم الشمال، مع أن الهدف تنمية الجنوب أولاً، ويمكن استرجاع قائمة طويلة من أعمال ومواقف العنف والغدر والكراهية، ونقض العهود والمواثيق والاتفاقيات والبرتوكولات أمام الملأ كله دون أن يرمش أو يطرف لهم عين ولعلنا نتذكر عندما وقّع رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرغني مبادرة السلام السودانية مع العقيد جون قرنق في نوفمبر 1988بأديس أبابا، ففي اليوم التالي لتوقيع المبادرة ، ومغادرة السيد الميرغني وعودته للخرطوم أطلق المتمردون صاروخاً لتدمير أو إسقاط طائرة كانت تقل وزير الدفاع آنذاك الفريق عبد الماجد خليل وقيادات الجيش السوداني واخطأ الصاروخ هدفه، فعلت الحركة الشعبية ذلك مع أن المبادرة أسست للنوايا الحسنة ولوقف إطلاق النار وللسلام والاستقرار في الجنوب. ونتذكر أنه في ذروة مفاوضات نيفاشا لتحقيق وقف الحرب في الجنوب، استغلت الحركة الشعبية هذه الأجواء واحتلت مدينة كبيرة واجبرها الجيش لاحقا علي الانسحاب بالقوة وبمواجهة بالسلاح الأبيض. ونتذكر أيضاً بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل زيارات غير معلنه ولم تبلغ بها الخرطوم لقيادات الحركة الشعبية لواشنطن لترتيبات أمنية ولجعل الجنوب لدي قيام دولته جزءاً من إستراتيجية الأمن الأمريكي في المنطقة، ونتذكر أيضاً جرأة الوفد الحكومي برئاسة باقان أموم للخرطوم لتسليم رسالة للرئيس عمر البشير للقاء الفريق سلفاكير في جوبا، وهي زيارة أحاطتها الشكوك القوية حول دوافعها بعد إعلانها وبعد وصول الوفد ولقاء القصر،وقد رد باقان أموم بما مفاده أنهم لا يخفون شيئاً وراء ظهورهم. أي لا مؤامرة ولا تمويه ولا خديعة وبعد 24ساعة من عودتهم لجوبا هوجمت مناطق داخل الحدود السودانية وصدتها القوات المسلحة بقوة وكشفوا بشكل قاطع عن الخديعة والغدر والعدوان والكراهية عندما اجبروا علي الانسحاب من هجليج، ماذا فعلوا؟، لقد كشف وزير الطاقة الدكتور عوض الجاز أنهم دخلوا هجليج بخطة مسبقة لتدمير المنشآت وإيقاف النفط واستخراجه من آبار هجليج لإلحاق الضرر والأذى الجسيم بالاقتصاد السوداني ولكن الإرادة السودانية التي أجبرت قوات جوبا علي الانسحاب من هجليج هي ذاتها الإرادة القوية التي أعادت فتح الآبار وضخ النفط مرة أخرى في أقل من أسبوعين، ونقل مهندس شاب وصل هجليج وموقع عمله فور خروج المعتدين بأن قوات جوبا تصرفت بحقد بالغ تجاه المنشآت فعمدت إلي تفجيرها الواحدة تلو الأخرى، خربوا ودمروا أي موقع أو مبني ونسفوا أي أجهزة وأخذوا كل ما استطاعوا الوصول إليه وحمله معهم، كان الغدر والكراهية البدائية وراء هذا العمل الإجرامي البشع في منشآت نفط هجليج داخل الحدود السودانية، وهي تمثل تأكيداً جديداً وقوياً لمقولة الحكيم السوداني محمد عثمان يس وقبل 60 سنة أن الجنوبيين بحكم الخلفية البدائية لسكان الغابات والأدغال لا يزيدهم الزمن مهما تعاقبت السنوات إلا حقداً وغدراً ومرارة وكراهية، كيف يتعامل أو يواجه السودان هذا القدر الهائل من الأحقاد التي تجسدها دولة الجنوب، في تصرفاتها وأفعالها وسياساتها وحروبها؟ ماهو المطلوب ومباشرة؟. نقلا عن صحيفة أخبار اليوم السودانية 28/5/2012م