عقد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ندوة عن انتخابات مجلس الشعب بتاريخ 23 فبراير 2012 شاركت فيها مجموعة متنوعة من الأكاديميين والسياسيين الذين يمثلون مختلف الأطياف، بالإضافة إلى عدد من أعضاء مجلس الشعب الذين ينتمون إلى أحزاب شتى. وقد شاركت في الندوة وافتتحتها ورأست جلستها الأولى التي كانت عامرة بالمناقشات الخصبة، وقد عكست اختلافات متوقعة في الرؤى حول الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية، أو حسب التعبير السائد في الخطاب السياسي المصري الآن بين شرعية الميدان (إشارة إلى ميدان التحرير) وشرعية البرلمان. وقد أكدت في كلمة لي نشرتها جريدة "الأهرام" في اليوم التالي للندوة على رأي لي سبق أن سجلته ونشرته من قبل، وهو أنه لا ينبغي التحدث عن الشرعية الثورية بعد اكتمال انتخاب جميع المؤسسات الدستورية، وهي مجلس الشعب ومجلس الشورى، وتشكيل اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور الجديد، وانتخاب رئيس الجمهورية. وذلك على أساس أن عناصر الشرعية الديمقراطية تكون بهذا قد اكتملت. وقد أدهشني أن يعلق على هذا الخبر الذي نشرته "الأهرام" ثلاثة وثلاثون قارئاً، توزعت آراؤهم بين القبول المطلق لفكرة سيادة الشرعية الديمقراطية وبين الرفض المطلق لها، على أساس أن الشرعية الثورية هي الأساس على رغم استكمال كافة المؤسسات الدستورية. وأنا أريد أن أعطي القراء الكرام مَن وافقوني ومَن عارضوني على السواء حقهم في إبراز أفكارهم، وأبدأ بعرض آراء من يؤيدون الشرعية الثورية ويرفضون الشرعية الديمقراطية، باعتبارها الشرعية السياسية الوحيدة. جاء في أحد التعليقات أن رأي الكاتب فيما يتعلق بالاستغناء عن ميدان التحرير بذريعة اكتمال مؤسسات الدولة لا أساس له، لأن الميدان هو "ضمانة لرأب الانتهاكات واستئصال الاعوجاج من جانب مؤسسات الدولة" وأضاف صاحب التعليق أن "الميدان أعطانا دروساً وعِبراً مستفادة لتقويم الحكام ووأد كل شروع في العبث بالديمقراطية، أو سلب دولتنا المدنية بغطاء ديني زائف". ومؤدى هذا الرأي أن وظيفة الشرعية الثورية تكمن أساساً في الرقابة النقدية على مؤسسات الدولة لمواجهة الانحراف في بعض قراراتها، وكذلك مواجهة التيارات السياسية التي تريد سلب الطابع المدني للدولة متسترة في ذلك -وإن كان بطريقة زائفة- بالدين. وتساءل قارئ آخر في تعليقه "ما الذي يريده الكاتب من شباب الثورة وهم -بحسب تعبيره- أجمل وأغلى ما في مصر، بعد أن «حرمناهم من أي دور» وتركنا المجال للكهول والجماعات"! ويضيف هل "نكمم أفواه الليبراليين والمثقفين حتى لا ينتقدوا مجلس الإخوان والسلفيين؟". وأريد أن أحلل هذه العبارات التي وردت فيها أفكار تستحق التعليق. والسؤال الذي يستحق أن يطرح الآن في ضوء هذه الملاحظات النقدية مَن الذي حرم شباب الثورة من القيام بأي دور؟ لقد سبق لنا أن حللنا الموقف في مصر بعد ثورة 25 يناير، وقلنا إن الخطيئة الكبرى التي ارتكبها شباب الثورة أنهم بعد تنحي الرئيس السابق غادروا ميدان التحرير وتفرقوا جماعات شتى، ولم تكن لديهم البصيرة الثورية لكي يشكلوا جبهة ثورية واحدة ويكوّنوا مجلساً لقيادة الثورة تمثل فيه كافة الائتلافات الثورية، لكي يضع خطة واضحة المعالم للمرحلة الانتقالية، تقوم على أساس تطبيق إجراءات ثورية وليس إجراءات تقليدية. وأعني بذلك أنه كان يمكن لهذا المجلس أن يقترح على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يستصدر مرسوماً بقانون لتشكيل محكمة ثورية ينص على إجراءاتها القانونية، لمحاكمة الرئيس السابق ورموز نظامه على جرائم الفساد السياسي والمالي التي ارتكبوها طوال الثلاثين عاماً الماضية. كما أنهم كانوا يستطيعون أن يقترحوا مؤسسات ديمقراطية مستحدثة لتمثيل شباب الثورة وغيرهم من طوائف الشعب التي ساندت الثورة وشاركت فيها منذ اليوم الأول، ولا تقوم بالضرورة على أساس الديمقراطية التمثيلية التقليدية التي تتمثل في انتخابات لمجلس الشعب أو الشورى لا يمكنها ضمان تمثيلهم بحكم تخلف الثقافة السياسية الراهنة من ناحية، وضعف صلة شباب الثورة بالشارع السياسي من ناحية ثانية، وجهلهم من ناحية أخرى باللغة التي يتخاطبون بها بفعالية مع الجماهير بطريقة تعبر عن روح الثورة. ولو كانت لديهم المعرفة العلمية السياسية الكافية لعرفوا أن هناك الآن صيغاً جديدة للديمقراطية يطلق عليها ديمقراطية المشاركة Participatory Democracy يراد منها تجاوز الديمقراطية التمثيلية بجوانبها السلبية التي سبق لي أن نقدتها نقداً عنيفاً في مقالاتي التي نشرتها قبل الثورة، وضمنتها كتابي "ثورة 25 يناير.. إلى الثورة الشاملة" (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الثانية، يناير2012). لو كانوا فعلوا ذلك لكان لهم شرف ابتداع ديمقراطية مصرية جديدة غير مسبوقة، كان من شأنها أن تضيف للتراث الديمقراطي العالمي. ولكنهم بدلاً من ذلك تشرذموا وانقسموا وتشكلت منهم مئات الائتلافات الثورية، التي لا يعلم أي إنسان من هم زعماؤها أو أعضاؤها، أو ما هي هويتها السياسية ومطالبها الثورية. ورأت تعليقات أخرى أن الدعوة إلى ترسيخ الشرعية الديمقراطية وإلغاء الشرعية الثورية وجهة نظر انهزامية، يراد منها تهبيط الهمم وهدفها إفساد الثورة بأي طريقة. وفات صاحب هذا التعليق -الذي يذكر أن من أفضال الشرعية الثورية أنها صححت عديداً من القرارات الخاطئة وهذا صحيح- أن تأييد الشرعية الثورية والقيام بالمظاهرات والاعتصامات لأسباب مشروعة أو غير مشروعة، ورفعها لشعارات صاخبة أحياناً يستحيل تنفيذها، من شأنه إحداث حالة من عدم الاستقرار السياسي والفوضى الاجتماعية، التي لا يمكن لها أن تسمح للمجالس النيابية التي اختار أعضاءها الشعب المصري بكل حرية، بأن تعمل في هدوء لكي تواجه المشكلات المصرية الجسيمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما فيما يتعلق بالتعليقات التي وافق فيها أصحابها على ضرورة احترام الشرعية الديمقراطية، فقد أجمعت على ضرورة احترام الإرادة الشعبية متمثلة في القبول بنتيجة الانتخابات الحرة التي تمت، وحتى لو لم ترض كافة الأطياف السياسية، فهذه بكل بساطة هي الديمقراطية. والديمقراطية كما أكدنا أكثر من مرة آليات وقيم. الآليات تتمثل في احترام نتيجة صندوق الانتخابات ما دامت تمت بحرية وشفافية ونزاهة، أما القيم فهي تظهر في القبول المطلق لمبدأ تداول السلطة، وقبول الآخر، وعدم إقصاء أي طرف سياسي معارض، وأهم من ذلك كله عدم احتكار عملية إصدار القرار، والحرص على صياغة الحلول الوسط للتوفيق بين النزعات المتعارضة، إعلاءً للمصلحة العليا للمجتمع بكل طوائفه. المصدر: الاتحاد 1/3/2012م