لم تمنع الحالة المزرية التي تعيشها الجبهة الثورية من صراع على القيادة وتنافر في الرؤى من تلقيها رصاصات (إضافية) على صدرها مخترقة قلبها ليتوقف النذر اليسير من الحراك الذي كان يبدو على جسدها الواهن. المبعوث الأمريكي الخاص إلى دارفور (وان سميث) الثلاثاء الماضية – أخرج سلاحه السياسي الخاص وأطلق رصاصات على الجبهة الثورية، أراحتها من العلة التي لم تمهلها طويلاً ففارقت على أثرها الحياة. فقد قال سميث للصحفيين أنه قال (صراحة) لقادة الجبهة الثورية أن بلاده لا تدعم بحال من الأحوال عملاً مسلحاً لإسقاط الحكومة السودانية بالقوة. ليس ذلك فحسب ولكن سميث وإمعاناً منه في (شرح الدرس جيداً) بحيث لا يحتاج سامعيه إلى توجيه أسئلة قال لهم أن تحرك الجبهة الثورية – بمكوناتها المعروفة – سيدفع الذين هم على الضفة الأخرى من الصراع (العرب والمسلمين في السودان) للوقوف ضدهم ويصبح عنوان الصراع عنواناً ذا منحي عنصري محض، مقاتلين من عناصر غير عربية ضد العناصر العربية والإسلامية. من المؤكد أن هذا القدر العميق من المنطق السياسي الأمريكي النادر وجد (سميث) نفسه مضطراً لاستخدامه حتى يتمكن من وضع الأمور في نصابها، إذ من المحتمل أن يكون عناصر الجبهة الثورية – لا سيما عقار وعرمان – قد ضغطوا وظلوا يلحون علي واشنطن أن تدعمهم وتتدخل لصالحهم بعدما طالت بهم الأشهر والأسابيع وهم ينتقلون من هزيمة إلى هزيمة وأحاطت بهم الخلافات وكادوا يصبحون أضحوكة. لا شك أن هذا الإلحاح كان صعباً على واشنطن الاستجابة له وفي ذات الوقت غض الطرف عنه، فهي تعرف أن الأمر فيه مصلحة (بدرجة ما) للحركة الشعبية في جنوب السودان المدللة لديهم كدلال إسرائيل وغنجها السياسي المفرط. بالمقابل أيضاً فإن واشنطن وسميث على وجه الخصوص يعلمون أن الصراع في دارفور قد انقضي وآذنت شمسه بالمغيب بدليل أن اليوناميد باتت غير ذات جدوى ويجري التفكير جدياً في تقليصها وتحويل جزء مقدر من تمويلها لصالح تمويل مشروعات خدمية وتنموية في دارفور. وفي مضمار المراهنات والسباقات في الولاياتالمتحدة، فإن أحداً لا يراهن على الجياد الخاسرة المنهكة التي لا نفع من ورائها، وهو ما باتت عليه الأوضاع في أوساط الحركات الدارفورية المسلحة بعدما أصبح شغل واشنطن الشاغل دولة جنوب السودان بكل ما تزخر به من موارد وموقع ونفط. إذن ليس من مصلحة واشنطن – هكذا أرادت أن يفهم من لا يفهمون في الجبهة الثورية – أن تعيد إنتاج سلعة انتهت صلاحيتها ولا مجال لإدخال أي مواد حافظة عليها لتصبح صالحة للاستعمال. كما ليس من مصلحة واشنطن أن تخلق صراع بأي قدر كان بين أي مكونات سودانية مهما كانت مظالمها يكون على الضفة الأخرى من الصراع، العرب والمسلمين، فليس غائباً عن واشنطن أن المحيط العربي والشرق ألأوسط يعج منذ أشهر وسيظل كذلك لسنوات وربما عقود بالعرب والمسلمين في مقاعد اتخاذ القرار وتحت إمرتهم الطائرات والصواريخ والمدافع وكل صولجان الحكم وليس كما كان في السابق مجرد مقهورين محتجين يسألون واشنطن أعطتهم أو منعتهم! لقد أدركت واشنطن – ولو متأخراً جداً – طبيعة الخارطة السودانية وأدركت أيضاً أن الحجة القديمة المتعلقة بالهوية والدم، والثقافة قد انقضت بانفصال دولة جنوب السودان ولن تنجح مطلقاً لعبة خلق جنوب سوداني جديد، بهذا كان محتماً أن (تعدم) واشنطن الجبهة الثورية لتتخلص من تبعات إحتمال مواجهة بين مكونات الثورية والمكونات الأخرى ولقوا أمر لم يكن ليصب في مصلحة الثورية مطلقاً.