بات يتعيَّن على جوبا أن تتعامل وتتعايش مع الواقع الذى خلّفته؛ فهي فى كل الأحوال طرف مهزوم. والطرف المهزوم -فى أىِّ ميدان قتال- هو الطرف الذي عليه أن يقبل الشروط ويتعايش مع ما تبقي له من حساب، بعد خصم كل المديونية السياسية التى رتّبها على نفسه. ففي فقه العلاقات الدولية فإنه لا مجال مطلقاً لمكافأة المعتدي، وإلا أصبح الميدان الدولي ساحة للفوضى وقلب القواعد، والعبث بالقوانين والأعراف. فالعلاقة بين جوباوالخرطوم – بعد هجليج – باتت مختلفة تماماً، وعلى النقيض بصورة كاملة عما كانت عليه قبل هجليج. والأمر هنا وثيق الشبه بما عُرف فى التاريخ السياسي الحديث بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، تلك التى أحالت العالم بالفعل من حقبة الى حقبة سياسية أخري مختلفة كل الاختلاف؛ ما يزال العالم بأسره يتعايش معها، ويتأثر بنتائجها ومترتِباتها . ففي أول ملمح لعلاقات البلدين، ضرورة تغيير الحركة الشعبية الحاكمة هناك لسلوكها السياسي العدائي الذى لا تنقصه الرعونة. إذ ليس من قبيل العمل السياسي المباغتة بإحتلال أرض ليست موضعاً للنزاع، مع الضرب بعرض الحائط – فى لحظات – بملفات هامة للغاية بالغة الحساسية لدولة الجنوب فيها مصلحة كبيرة للغاية. كان الأمر بكامله مدهشاً ومثيراً للإستغراب، وقد إتضح من خلاله أن القادة الجنوبيين ليسوا على مستوي مسئولية إدارة دولة، ولا على مستوي المحافظة على الأمن الإقليمي للمنطقة، ومثل هذه الحكومات يتوجس منها المجتمع الدولي كل التوجس كونها غير مأمونة فى تصرفاتها ومن السهل أن تهدم الأمن والسلم الدوليين بعمل أخرق يكلِّف العالم جهداً ومالاً وأرواحاً وسلاحاً. هذا المؤشر يفرض على الجانب السوداني أن يتعامل بقدر غير قليل من الغلظة السياسية والحساب الدقيق فى كل خطوة يتعامل فيها مع جوبا ؛ ولعل إشارة الرئيس البشير الى ضرورة تخليص الشعب الجنوبي من نظام حكم الحركة الشعبية يأتي فى سياق هذه الفرضية، فالنظام الحاكم فى جوبا عدو لبلده وعدو لمصالح دولة الجنوب، ومن الطبيعي أن يُنظر الى نظام بهذه المعطيات نظرة المنبوذ غير المرغوب فيه لأنه لا يملك أبسط مقومات التعايش السلمي وإحترام القواعد الدولية ومقتضيات حسن الجوار. من جانب ثانٍ، فإن الخرطوم ربما لجأت الى سحب كل دعمها لجوبا فى مجالات التدريب المختلفة والعون الإداري، إذ ربما لا يعلم الكثيرون أن السودان هو (المدرسة) التى تعدّ لدولة الجنوب الكوادر العاملة فى شتي المجالات، وهو عمل شبه مجاني ولوجه المساعدة بفرض مساعدة الدولة الجنوبية الناشئة لبناء كادرها الإداري والتنفيذي مدنياً كان أو نظامياً فى عمل الشرطة والأمن الداخلي؛ وهى بمثابة بني تحتية مهمة من المستحيل على الدولة الجنوبية الحصول عليها من دولة أخري مجاورة كانت أو بعيدة. الأمر الأكثر سوءاً وخطورة بالنسبة لجوبا أن الخرطوم لن تمكنها مهما كانت الظروف من التلاعب بالمعادلة العسكرية بين البلدين ؛ هذه الفرضية تبدو هى الأسوأ دون منازع، فقد أدركت الخرطوم – عمليّاً – أن الجيش الشعبي يعاني عوراً عسكرياً فادحاً، حفظته الذهنية العسكرية السودانية عن ظهر قلب ووضعته فى مقدمة اهتماماتها ونصب عينيها، وهو ما من شأنه أن يحول دون تمكُن الجيش الشعبي – الآن أو فى المستقبل – من تخطي الحدود ولو لمترٍ واحد. إن ما جنته جوبا على نفسها جراء حادثة هجليج يفوق مئات المرّات، ما كان يمكن أن تتسبّب فيه أىّ ظروف تجعل من جوبا -من هنا وإلى المستقبل- البعيد تحت رحمة الخرطوم وفي قبضتها تماماً!