يحلو لكثير من منتقدي قرار مجلس الأمن الدولي الأخير حول النزاع بين السودان وجنوب السودان، القول بأن القرار قام بترتيب أجندة التفاوض وفقاً لاحتياجات وأولويات جوبا، فوضع النفط على رأس قائمة المواضيع المطلوب الاتفاق حولها، لتيه أوضاع مواطني البلدين المقيمين في البلد الآخر، ثم الحدود وأخيراً أبيي، ما يعني في عرف هؤلاء أن مجلس السلم والاتحاد الأفريقي ومن بعده مجلس الأمن، لم يجتمعا إلا لهدف واحد، هو إنقاذ جوبا من خطأين فادحين أقدمت عليهما، أولهما إغلاق أنابيب النفط ما قاد اقتصادها الى حافة الانهيار، والثاني الاعتداء على أراضي جارتها الشمالية والوقوف على شفا الحرب. ذلك التقرير السري للبنك الدولي الذي تم الكشف عنه أخيراً، يصب في الاتجاه القائل بأن أصدقاء جوبا في العواصمالغربية والمؤسسات الإقليمية والدولية يشعرون بالرعب من خطر الانهيار الاقتصادي المحدق بالجنوب ويحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالتقرير ينقل عن مدير بالبنك الدولي لأحد برامجه في أفريقيا توقعه بأن اقتصاد الجنوب في طريقه للانهيار في يوليو المقبل على خلفية قرار حكومته إيقاف ضخ نفطها عبر السودان، وتوقع الرجل ارتفاع معدلات الفقر وفشل سياسات التقشف بعد بعد انخفاض الناتج القومي الإجمالي للجنوب. التقرير يأتي على خلفية تحول مهم في عالم المال والعلاقات الاقتصادية بالنسبة لجوبا، فبالتزامن مع اندلاع المعارك في منطقة هجليج ومناطق حدودية أخرى، تم الإعلان عن قبول عضوية دولة جنوب السودان في كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ما أعتبره البعض في الخرطوم مقدمة لفيض من الدولارات الغربية التي ستنهال دون حساب على جيوب زعماء الحركة الشعبية والجيش الشعبي في شكل قروض ومنح وتسهيلات مالية مقدمة من المؤسستين الماليتين الرئيسيتين في العالم. الحكمة التي يعرفها المهتمون بالسياسة الدولية جيداً، أن الغرب لا يبعثر أمواله ونقوده كيفما اتفق ولو كانت تلك النقود موجهة لدعم حليف أو تنفيذ خطة سياسية إستراتيجية في هذه المنطقة أو تلك من العالم، وباستثناء الأموال والدولارات (القذرة) التي تقدمها أجهزة الاستخبارات الغربية لعملائها من الأفراد والكيانات وحتى الحكومات حول العالم، فإن تقديم الدولارات النظيفة عبر المؤسسات المالية القومية أو الدولية لا يتم إلا بعد استيفاء إجراءات محددة في الغرب، واستيفاء معايير محددة في الدول التي تتلقي التمويل، ويكشف تقرير البنك الدولي الأخير أن البنك ومن خلفه الدول الغربية المانحة غير مستهدين لتقديم مليارات الدولارات إلى جوبا، مكافأة لها على قرارها غير العقلاني بإيقاف ضخ النفط الذي يعتبر المورد المالي الفعلي لها في واقع الأمر. المجتمع الدولي، لا يخشي انهيار دولة جنوب السودان وحدها في واقع الأمر، لكنه ربما كان يخشي انهيار السودان بذات القدر. ومضي د. صفوت فانوس المحلل السياسي في هذا الاتجاه قبل أيام على قناة النيل الأزرق واعتبر أن الحديث عن مؤامرة دولية لتفتيت السودان أمراً غير منطقي، وأن المجتمع الدولي غير قادر على تحمل تبعات انهيار الدولة في السودان أو قيام دولتين فاشلتين في النيل الأزرق وجنوب كردفان، على اعتبار أن الغرب هو من سيدفع فواتير قيام تلك الدول الفاشلة في شكل مصروفات أمنية إضافة لمواجهة خطر الإرهاب، وفي شكل مساعدات إنسانية. ضعف موقف جوبا الاقتصادي ليس بالمتغير الجديد في واقع الأمر، فالجميع يتحدثون عنه منذ وقت ليس بالقصير، لكن الجديد أن منظمة كالبنك الدولي تؤكد هذا الضعف وتحذر من اقتراب ساعة موت حكومة الجنوب بالسكتة الاقتصادية، ما يعتبره البعض تحذيراً يصب مباشرة في صالح الخرطوم التي يمكنها الدخول إلي المفاوضات في ثوب الطرف الأقوى اقتصادياً. وللمفارقة، فإن كثيراً من التحليلات أكدت في البداية أن إيقاف ضخ النفط والتصعيد العسكري في جنوب كردفان خطة من جانب الحركة الشعبية لاستنزاف موارد حكومة الخرطوم الشحيحة وإصابتها بشلل مالي واقتصادي يؤدي إلي سقوطها على يد المعارضة المسلحة، أو إثر ثورة شعبية عارمة. رغم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الجنوب، وتزايد احتمالات انهيار اقتصاده الهش بسبب فقدان عائدات البترول، يؤكد البعض أن حكومة الحركة الشعبية قادرة على العيش عقب وفاة اقتصادها، على اعتبار أن الدولة في الجنوب لا تقدم أية خدمات للمواطنين في أرض الواقع، وتعتمد في خدمات التعليم والصحة والإغاثة على المنظمات الدولية والمنح والمساعدات والتبرعات الأجنبية وتصرف القليل فقط من الأموال على قيادات الجيش الشعبي من الرتب العليا، أما سائر فئات الجيش فاعتادت على القتال تحت لافتة المتطوعين منذ أيام الحرب الأهلية، كما اعتادوا أثناء موحلة نيفاشا على عدم تلقي رواتبهم لأشهر طويلة، ما يعني عملياً أن حكومة الجنوب قادرة على البقاء اعتماداً على الدولارات التي تتلقاها والأسلحة التي تصلها من هنا أو هناك. محاولة استثمار ضعف اقتصاد الجنوب للضغط عليه أثناء المفاوضات المزمع استئنافها بموجب قرار مجلس الأمن الدولي ربما يكون خياراً جاذباً بالنسبة للبعض، على اعتبار أن جوبا ومن خلفها حلفاءها في المجتمعين الإقليمي والدولي يطاردهم شبح انهيار اقتصاد الجنوب، ويعنيهم بالدرجة الأولي إبرام اتفاق لتقاسم عائدات النفط مع السودان بأعجل ما تيسر وبالتالي بمقدور الخرطوم إبطاء وتيرة التفاوض والتمسك بذات مطالبها القديمة لتصدير نفط جوبا عبر أراضيها. لكن آخرين يحذرون من الدخول إلي المفاوضات من بوابة الرغبة في استغلال ضعف موقف جوبا الاقتصادي. ويقول مكي على بلايل السياسي والمرشح السابق لمنصب والي جنوب كردفان إن اقتصاد الجنوب في حالة يرثي لها بسبب اعتماد شعبه الكامل على عائدات البترول التي انقطعت، لكن موقف الخرطوم التفاوضي يجب أن يبني على مبدأ العدالة وعدم التفريط في الحقوق لا على استغلال ضعف اقتصاد الجنوب، خاصة أن الحركة الشعبية مدعومة خارجياً ما دفعها لخوض مغامراتها في هجليج وغيرها. تحديد الاقتصاد لمعالم السياسة ليس بالاكتشاف الجديد في حد ذاته، ومن المعلوم عند خبراء السياسة ومتابعيها أن مدي قوة الاقتصاد يؤثر في قوة المواقف السياسية للحكومات أو ضعفها، لكن الاكتشاف الجديد الذي تمكن قراءته بين سطور تقرير البنك الدولي والسري ومن قبله سطور قرار مجلس الأمن الدولي، أن أصدقاء جوبا في الغرب يعرفون أن اقتصادها في طريقه إلى الموت ألسريري، ولا يرغبون في دفع فواتير إنعاشه، ويحاولون دفع جوباوالخرطوم لحل النزاع حول النفط، كي تتمكن كل منهما من دفع فواتيرها المالية بنفسها.! نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 9/5/2012م