بعكس ما بدا - للوهلة الأولي - عقب صدور القرار الدولي 2046 من أن القرار يصب فى نهاية المطاف لصالح جوبا، إلاّ أن تداعيات الأحداث فيما بعد أثبتت نتائجاً مغايرة كليةً. ففي الوقت الذى راهنت فيه جوبا على إمكانية إنتزاع أراضي سودانية أو المحاججة بشأنها طالما أن هنالك مفاوضات مقبلة بشأن حدود البلدين، وطالما أن القرار الدولي يضغط بقوة بإتجاه حسم النزاع فى فترة أقصاها ثلاثة أشهر، فإن الاتحاد الأوربي فاجأ جوبا برفضه الإقرار بأحقيتها فى هجليج التى أقتحمتها مؤخراً فى النزاع. سفير الاتحاد الاوربي بالخرطوم (توماس بوليتشي) قال فى حوار تلفزيوني بالعاصمة الخرطوم، إن هجليج ليست محل لنزاع وقد حسمها قرار الهيئة التحكيمية بلاهاي فى العام 2009م، ويعدُّ هذا التصريح – مع كونه إقراراً بواقع ماثل – بمثابة إحباط لجوبا، كونها لن تستطيع المغالطة بشأن تبعية هجليج للسودان. والأدهي من ذلك أن المجتمع الدولي ومهما تعاطف مع جوبا إلاّ أنه لا يمكن أن يسايرها فى كل رغباتها وغرائزها السياسية المتفلتة! وفى الوقت الذى كانت جوبا تراهن فيه على أن بإمكانها المماطلة والتعنُّت فى المفاوضات المرتقبة بينها وبين الخرطوم وصولاً الى تعقُد الأزمة ومن ثم تدخل مجلس الأمن الدولي بإيقاع العقوبات على الخرطوم، فإن تقريراً سرياً صادراً عن البنك الدولي - لسوء الحظ - خرج مؤخراً بنتيجة خطيرة كانت خلاصة لدراسة اقتصادية معمقة قام بها خبراء بالبنك أشاروا فيها الى أن الاقتصاد الجنوبي آيل للإنهيار لا محالة بسبب تطاول أمد خروج النفط عن الموازنة العامة للدولة الجنوبية والتى كان يمثل نسبة 98%منها. التقريرالدولي رسم صورة بالغة القتامة لمستقبل الاقتصاد الجنوبي اذا استمر الوضع الراهن على ماهو عليه. وقال المسئول الافريقي فى البنك الدولي إن من الصعب أن تجري معالجة ذات نفع على الاقتصاد الجنوبي حتى مع التزام الحكومة الجنوبية برنامجاً تقشفياً صارماً وحتى ولو استحدثت بدائلاً على المدي القريب. وأشار التقرير الى أن أقصي مدة يمكن أن تتحملها الدولة الجنوبية بهذه الحالة هى شهر يوليو المقبل! بعدها يدخل الاقتصاد الجنوبي مرحلة الانهيار الكامل والتى من أهمّ آثارها الاجتماعية والاقتصادية المباشرة - بحسب التقرير - نقص حاد في الغذاء والخدمات يطال ما يجاوز نصف سكان الدولة الوليدة. من المؤكد أن هذا التقرير – الذى بدا كناقوس خطر حاد – قد لفت انتباه القادة الجنوبيين ولو بعد فوات الأوان ؛ كما أنه بالضرورة لفت إنتباه حلفائهم، الشئ الذي يتعذّر معه على جوبا المماطلة والتلاعب حيال قضية المفاوضات، أو المراهنة على لعبة التكتيك والمماحكة التى ربما خططت لها بعناية، ويقتضي هذا الأمر أن تندفع جوبا - تحت ضغط هذا التقرير - الى المفاوضات بجدية حتى تتجنب النتائج المدمرة التى تتهدّد اقتصادها. ويعتبر هذا العامل الاقتصادي شديد الخطورة ليس لكونه يتهدد اقتصاد الدولة الوليدة فحسب، ولكن لأنّ من شأن ما يترتب عليه من نتائج آنية أن يهيل التراب على الدولة بكاملها وإنهيار بنيانها السياسي والاجتماعي. إذن وفقط فى حدود هذين التطورَين، قضية الحدود وملف النفط، لا يبدو أن القرار 2046 قد جاء فى صالح الدولة الجنوبية، على العكس تماماً؛ لقد أحكم القرار وثاقه على عنق الحكومة الجنوبية، فهي إما أن تتعامل مع القرار بإعتباره (منقذاً) لها ومن ثم تدخل فى مفاوضات جادة بأيدي نظيفة؛ أو أن تتلكأ وتراهن على مكايدة الخرطوم فقط من أجل المكايدة والمخاصمة، وتدفع الثمن الذى يعتبر هذه المرّة غالياً وغالياً جداً!