لن يختلف إثنان على أن الأضرار الناجمة عن تأخير المفاوضات بين الخرطوم وجوبا والعراقيل التى بدأت تظهر فى الافق ستحلق بالطرفين، ولكن بشكل أكبر على الجانب الجنوبي، إذ أنّ هنالك تقرير دولي لا يتطرق اليه الشك صادر بصفة سرية وعاجلة من البنك الدولي يؤكد أن الاقتصاد الجنوبي ماضٍ بإتجاه الإنهيار المحتوم بصورة مريعة فى تاريخ أقصاه يوليو المقبل –أى بعد شهر واحد من الآن– إذا لم تتدارك الحكومة الجنوبية الأمر وتعمل على إستئناف ضخ النفط من جديد. كما أن هناك قضايا اجتماعية وأمنية عاجلة لا تنتظر دولة جنوب السودان؛ تتمثل فى إحتمال أن يواجه ما يجاوز نصف سكانه خطر المجاعة بما قدره حوالي 5 مليون مواطن جنوبي يتهدَّدهم الجوع، ولا تملك لهم المنظمة الدولية ووكالاتها المتخصصة حلولاً، لا على المدي القريب ولا على المدي البعيد، فى ظل شعور عارم لدي كافة دول العالم أن دولة الجنوب هى التى بيدها معالجة أزمتها الإنسانية بإستئناف ضخ النفط، ومتعبرةً قرار إيقاف ضخه منذ البداية خطأ جسيماً. وقد شبّه أحد المسئولين الأوربيين موقف الحكومة الجنوبية بمَن يقطع يده اليمني ويتسوّل بيده اليسري! على الجانب السوداني لا يشكل النفط هاجساً بذات القدر الذى يشكله لدي الطرف الجنوبي؛ فقد قرّرت الحكومة السودانية بعدما تدارست الأمر أن تستبعد عائدات النفط من الموازنة العامة للدولة على الأقل لما تبقي من هذا العام 2012 علي إعتبار أن فرص التوصل الى حل بشأن هذا الملف لا تلوح فى الأفق القريب. وأشار وزير المالية والاقتصاد السوداني على محمود فى تصريحات صحفية الاسبوع قبل الماضي الى أن الحكومة السودانية بصدد وضع تدابير طارئة لتخطي هذا الوضع الإستثنائي؛ وقد شرعت فى ذلك بالفعل مستحدثة بدائلاً يُنتظر أن تأتي بنتائج جيدة. ولعل أبلغ دليل على ان النفط ما عاد يؤرق الحكومة السودانية كما هو حادث لدي الطرف الجنوبي أن الحكومة السودانية حالياً تصرُّ على أنّ الأولوية فى أجندة التفاوض إنما هى للملف الأمني، ليس لأنّ هنالك أضراراً يتسبّب فيها هذا الملف على الجانب السوداني، وإنما لأنّ حسن إدارة التفاوض ومدي جديته والنتائج الجدية التى من المتوقع أن يفضي اليها تستلزم حسم هذا الملف أولاً لتتأسس عليه بقية القضايا فى مناخ مواتي يحفه الأمن والإستقرار. وقد نجحت هذه التجربة نجاحاً منقطع النظير بين الجانبين التشادي والسوداني منذ التوصل الى آلية القوات المشتركة التى جاوزت حتى الآن العامين فى مناخ أمني مثالي بكل المقاييس؛ وعلى ذلك فإن الجانب الجنوبي هو المتضرِّر الأكبر دون منازع من عرقلة المفاوضات ومحاولة الإصرار على مناقشة ملف النفط أولاً، فسواء كان مقصده هو مناقشة ما يعاني منه عاجلاً لضمان حصوله على مبتغاه، أو كان يرمي لعرقلة المفاوضات أملاً فى تعقيدها حتى يتدخل مجلس الأمن الدولي، فإن الجانب الجنوبي تبدو حساباته غير متوازنة ؛ ذلك أن فرضية الحرب الشاملة- فى حالة تعقُّد التفاوض – أو اللجوء الى العقوبات من جانب مجلس الأمن فى حالة تعرقل المفاوضات وعدم إلتئامها، كلها فرضيات غير واقعية، وبعيدة المنال، ففي النهاية لا بُد من أن يستعيد الجنوب ضخ نفطه عبر مفاوضات ومن المستحيل أن يستعيد الضخ بقرار فردي وأحادي الجانب، وفى النهاية أيضاً لا بُد أن تنعقد المفاوضات ويُناقش فيها الملف الأمني لأنه حتى وعلى فرض البدء بالملف الخاص بالنفط، فإن الحكومة السودانية لديها مطالب ومستحقّات قانونية مشروعة تتعلق بالأضرار والتخريب الذي طال منشآتها النفطية فى هجليج عقب العدوان الجنوبي الغاشم عليها فى العاشر من إبريل الماضي. الفُرَص والسوانح تبدو ضئيلة أمام الحكومة الجنوبية، وإن تظاهرت بغير ذلك !