عجزت الحكومة الجنوبية عن ضم منطقة هجليج السودانية الى أراضي دولة الجنوب على الأرض ففضلت بدلاً عن ذلك ضمها على الورق! فقد إعتمدت حكومة جنوب السودان -الجمعة الماضية- الخارطة الرسمية للدولة الجنوبية وهو إجراء يتم للمرة الأولي منذ تدشين دولة جنوب السودان العام الماضي 2011م، غير أن ما لفت الانتباه فى هذه الخارطة أنها تضمنت 6 مناطق من بينها منطقة هجليج، قالت حكومة الجنوب إنها تعتبرها مناطقاً جنوبية، زاعمة أن منطقة هجليج جري تضمنيها الى السودان فى العام 1970 عقب اكتشاف النفط فيها. من جانبها رفضت الحكومة السودانية الإجراء الجنوبي واعتبرت منطقة هجليج سودانية وليست محل نزاع بين البلدين؛ وقال وزير الإعلام السوداني د. غازي الصادق إن ما أقدمت عليه الحكومة الجنوبية هو بمثابة تعدٍّ سافر على أراضي السودان. والواقع إن ما أقدمت عليه جوبا وبصرف النظر عن مخالفته للقوانين الدولية يثير قدراً كبيراً من الاستغراب والسخرية فى آن واحد؛ فالخُرط والأوراق ومهما بلغت درجة وقوة اللون والخطوط لا تصنع واقعاً ولا تستحدث حقاً، هى قد تعزي وتسلّي واضعيها وتمنحهم الشعور بأنهم يملكون هذه المناطق، كما أنها ربما تضفي طمأنينة سياسية كون أن أراضي مُدعي ملكيتها تقع ضمن حدود الدولة الجنوبية فى خارطتها الرسمية ولكن هذا القرار للأسف الشديد- لا يرقي قانونياً ولا من وجهة نظر سياسية الى مرحلة الحجة القابلة ولو لمجرد الأخذ والردّ والنقاش؛ دعك من حجة تكفي لإقرار الحق. الأمر الثاني أن الخارطة الجنوبية – التى تُوضع للمرة الأولي – جاءت تالية للواقع القائم ومن البديهي أن اللاحق لا يسري على السابق حتى ولو على سبيل المغالطة، ولو كان مثل هذا السلوك غير المعهود دولياً صحيحاً وسليماً لتبدلت أوضاع القارة الإفريقية بأسرها ولإنخرطت عشرات دول القارة فى نزاع دامي مستمر بسبب الحدود، إذ ما علي أى دولة سوي أن تختار ما يروق لها من مساحة وترسم بها خارطة سياسية من وجهة نظرها ثم تحاجج الآخرين بها، ونحن جميعاً نعلم أن منظمة الوحدة الإفريقية المنشأة فى العام 1964م والتي تحولت حديثاً الى الاتحاد الإفريقي أقرّت صراحة فى ميثاقها منذ قيامها بأن تظل الحدود التى وُجدت بعد استقلال دول القارة كما هي عليه منعاً لمسلسل النزاعات المتوقع والذى لا ينتهي. من جانب ثالث – وهذا أغرب ما فى الأمر – ان الحكومة الجنوبية تخيرت أغرب توقيت لإخراج خارطتها الشوهاء هذه، وهو توقيت يتزامن مع صدور القرار الدولي 2046 الصادر بتاريخ 2/5/2012م من مجلس الأمن الدولي. وقد تضمن القرار بنداً يتحدث عن تحديد الحدود بين السودان ودولة جنوب السودان وضرورة التحقق منها ومن ثم الانخراط فى مفاوضات بشأنها ضمن مفاوضات القضايا الخلافية العالقة. الحكومة الجنوبية - بسذاجة منقطعة النظير- أرادت تغيير الواقع بالتزامن مع القرار الدولي ظناً منها أن ذلك يمنحها فرصة أخذ ما تعتقد أنه حق لها؛ وبالطبع ليس من المستبعد فى هذا المنحي أن يكون هذا الموقف مخططاً له من قِبل جهات دولية حليفة لجوبا، أرادت أن يشتعل الخلاف الحدودي بين البلدين ليظل هذا الخلاف قائماً الى الأبد. غير أن جوبا فيما يبدو وفى غمرة تفكيرها الساذج نسيت أمرين مُهمَّين للغاية؛ أولهما أنها حين إدعت ملكية هجليج واجتاحتها بالقوة تلقت إدانة دولية وإقليمية واسعة النطاق بما يشير الى أن حجتها بأن هجليج ملكها أوهن من بيت العنكبوت، وبما يشير الى أن المجتمع الدولي غير موافق ولا متفق معها فى إدعائها؛ بل مالنا نمضي بعيداً وقد تضمن قرار مجلس الأمن المشار إليه بنداً يشير الى تكوين لجنة تقصي حقائق بشأن إحتلال جوبا لهجليج، فلو لم يكن هنالك ما يشير الى أن جوبا لا حقَ لها فى هجليج لما أقرّ المجلس بنداً كهذا. الشيء الثاني، أن النزاع حول المناطق الحدودية المتنازع عليها بين الطرفين معروف ومثبت ومن ثم فإن قرار ضم هذه المناطق فى خريطة سياسية لن يغيِّر من الأمر قيد أنملة! كل الذى فعلته جوبا أنها تكبدت مشاق رسم خارطة سوف تضطر لاحقاً لإلغائها ورسم أخري بديلة عنها!