لم يؤد استعادة الجيش السوداني لمدينة هجليج النفطية الى توقف التوتر واستمرار تبادل الاتهامات بين الخرطوم وجوبا بالمسؤولية عن خرق وقف النار، وعدم الالتزام بقرار مجلس الأمن، حيث اتهمت حكومة الجنوب حكومة الشمال بقصف مواقع في الجنوب بالطائرات الحربية، فيما الخرطوم تحدثت عن وجود مخطط غربي صهيوني لمنع السودان من أن ينعم بالاستقرار والأمن، وسعي غربي لتبرير مواصلة العقوبات ضد السودان، وايجاد المبررات والذرائع الواهية لدفع مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات دولية، وتشريع التدخل الأجنبي في شؤون السودان الداخلية، من خلال ارسال قوات من الأممالمتحدة للانتشار في المناطق الحدودية، موضع النزاع، وتشارك فيها قوات غربية وإسرائيلية، وهو ما تم الكشف عنه من خلال طلب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من اسرائيل الاشتراك في قوة دولية سترسل الى السودان. ان مثل هذه التطورات والمستجدات تعيد الى الأذهان الدور الاسرائيلي الغربي القديم الجديد في الوقوف وراء تغذية الصراعات القبلية، والحرب بين الجنوب والشمال، بهدف اخضاع السودان وفرض الهيمنة الاستعمارية عليه. فمنذ انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، وإعلان ولادة دولته الجديدة برئاسة سلفاكير، دخل السودان مرحلة اكثر خطورة، من كل المراحل السابقة، فالاعتقاد الذي ساد في شمال السودان من أن التسليم بنشوء دولة في الجنوب سيضع نهاية للحرب التي دامت عقوداً، واستنزفت قدرات السودان وشعبه، واستطراداً سيخلق مناخاً من الأمن والاستقرار والسلام لانطلاق قطار التنمية واستغلال ثروات السودان الهائلة في تحقيق التقدم والازدهار الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، هذا الاعتقاد تبدد مع عودة الصراع المسلح في أبيي، ومن ثم في هجليج، والصراعات في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وتأكد أن انفصال الجنوب لم يكن سوى حلقة من حلقات المخطط الإسرائيلي الأميركي لتفكيك وحدة السودان، وتقسيمه إلى أربع دول، وجعلها مرتبطة بفلك التبعية لإسرائيل والدول الغربية الاستعمارية الطامعة في ثروات السودان، النفطية والمعدنية والزراعية والحيوانية. وما يؤكد ذلك أن دولة الجنوب الوليدة تحولت إلى قاعدة إسرائيلية لإثارة الاضطرابات والصراعات لمواصلة حرب استنزاف السودان اقتصادياً لإنهاكه ومنعه من الاستقرار واستثمار ثرواته. ولذلك فإن أصابع إسرائيل كانت وراء دفع دولة الجنوب لافتعال الصراعات الحدودية، وعدم تسهيل حلها عبر التفاوض، واحتلال مدينة هجليج النفطية قبل أن يستعيدها الجيش السودان. فإسرائيل هي المستفيد الحقيقي من هذا التوتر، بل إنها تشجع وتحرض رئيس الجنوب سلفاكير على دخول الحرب حتى تعزز نفوذها في السودان، بهدف رفع مستوى تدخلها في السودان لاستكمال مخططها بإقامة دويلات انفصالية في الغرب والشرق، والشمال، عبر تغذية الصراعات والحروب في مناطق الحدود، وتحريض الجماعات الانفصالية، وتوفير المناخ المواتي لتغلغل تنظيم القاعدة في السودان ليبدأ نشاطه الإرهابي، في سياق الوظيفة المعطاة له في خدمة المشروع الأميركي الشرق أوسطي القائم على إحداث الفوضى والاضطراب وإثارة الفتنة، كمدخل لتحقيق هدا المشروع التفتيتي للمنطقة، وتحطيم أي إمكانية لنشوء دولة قوية تشكل تهديداً لإسرائيل والمشروع الغربي الاستعماري، وتسعى إسرائيل من وراء هذا المخطط إلى الإمساك بالخاصرة الجنوبية للوطن العربي، والتحكم بأمن مصر، الدولة العربية الكبرى، التي تخاف إسرائيل من عودتها إلى دورها العربي، والخروج من أسر اتفاقيات كامب ديفيد، ولذلك تعمل على ابقائها خاضعة ومكبلة بقيود التبعية من خلال التحكم بأمنها الاقتصادي والمائي لمنعها من التحرر والاستقلال عن أميركا وإسرائيل. وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن أحد المبادئ المهمة والثابتة التي اتبعتها، ولاتزال القوى المعادية للأمة العربية، والتي تمثل تهديداً للأمن القومي العربي، هو مبدأ شد الأطراف، ومضمون هذا المبدأ يقوم على أن إضعاف الجسد العربي يجب أن يأخذ طريقتين مختلفتين في آن واحد: إحداهما تتجه إلى القلب، والثانية تتجه إلى الأطراف، أي إضعاف الأطراف من خلال عملية جذب سياسية محورها إبعاد الأطراف عن مساندة منطقة القلب، وهو ما يؤدي إلى اضعاف القلب واختلال الجسد، ومن ثم تسهيل عملية الانهيار التي يسعى أعداء الأمة العربية إلى تحقيقها (راجع مركز الأهرام للدراسات الأصابع الإسرائيلية في أفريقيا) والتدخل الإسرائيلي في السودان قديم قدم مشكلة جنوب السودان مع شماله حيث أسهمت اسرائيل في دعم جنوب السودان بالسلاح وتحريضه على الانفصال مند عقود. وبدا واضحاً أن انفصال جنوب السودان كان بمثابة انتصار لإسرائيل وتحقيق لحلمها بتقسيم السودان، الذي طالما سعت إليه ، ولهذا كانت أول دولة تعترف بدولة الجنوب بعد الاستفتاء على الانفصال، وقام سلفاكير بزيارة إسرائيل وتوقيع سلسلة اتفاقيات أمنية واقتصادية معها، والاتفاق بين الجانبين بأن تقوم إسرائيل بتسليح الجنوب بالأسلحة المضادة للدبابات والصواريخ ودبابات وطائرات مجاناً، مقابل إعطاء إسرائيل حق الاستثمار في النفط والزراعة والمياه، بما يجعل دولة الجنوب تابعة لإسرائيل في كافة المجالات، وتحت وصايتها المباشرة، الأمر الذي يشكل خطراً كبيراً على السودان، يهدد بتقويض وحدته، من ضمن خطة إسرائيلية أميركية وضعت لاستكمال هدا المخطط، وتقوم على استنزاف السودان عبر: 1 منعه من استغلال ثرواته النفطية، وحرمانه من عائدات مرور نفط الجنوب عبر أراضيه، من خلال مساعدة الجنوب على مد خط أنابيب، لنقل نفطه، يصل إلى دولة افريقية، تموله إسرائيل، وتدفع مقدماً 8 مليارات للجنوب، ريثما ينتهي العمل، ويعود إلى تصدير نفطه. 2 إثارة الصراعات القبلية والطائفية والحروب بين مكونات الشعب السوداني. 3 التدخل العسكري في السودان بغطاء قوات حفظ السلام الدولية، والعمل على إقامة قواعد عسكرية والاستيلاء على حقول النفط المتنازع عليها، لحرمان السودان من الاستفادة منها. وفي هذا السياق كشفت مصادر في وزارة الخارجية الاسرائيلية للاذاعة الصهيونية أن عددا كبيرا من الشركات الإسرائيلية بدأت مشروعات في دولة جنوب السودان لمساعدتها على تطوير البنى التحتية.. وقالت المصادر إن إسرائيل تولي اهتماما كبيرا لعلاقتها مع جنوب السودان، وان وزارة الخارجية الإسرائيلية «أعلنت أنها اختارت حاييم كورين ليكون سفيرها لدى جنوب السودان. وأوضحت أن كورين، الذي يتحدث العربية ويتقن عدة لهجات سودانية، سيكون سفيرا متنقلا مقره في القدس». وقد كشفت المداولات الأخيرة في مجلس الأمن عن توجه غربي مكمل لما تقوم به إسرائيل من استنزاف للسودان، تمثل في محاولة فرض عقوبات على الخرطوم وجوبا بذريعة أنهما ترفضان الالتزام بقرار مجلس الأمن وقف القتال، وذلك بهدف تضييق الخناق على السودان، فيما دولة الجنوب يجري تمويلها إسرائيليا، وغربياً بضمان ثرواتها النفطية. غير ان هذه المحاولة لاقت الفشل بسبب المعارضة الروسية والصينية، مما يؤشر إلى أن قرار موسكو وبكين بإسقاط الهيمنة الاميركية الغربية على القرار الدولي، لا يتعلق فقط بسوريا، بل وينسحب على كل مناطق الصراع في العالم، خاصة وان للصين استثمارات نفطية في شمال وجنوب السودان، وتسعى أميركا وإسرائيل إلى السيطرة عليها وحرمان الصين منها. ومثل هذا الصراع يظهر بوضوح من خلال تعطيل الصين لأي قرار دولي لا ينسجم مع مصالحها في السودان، ولذلك تحركت باتجاه الجنوب والشمال لايجاد حل للخلافات بين البلدين حول المناطق الحدودية، والتي يوجد فيها ثروات نفطية هامة. كما يظهر تبني الغرب للجماعات الانفصالية المتمردة في النيل الأزرق كردفان والتي تنتمي بالأصل الى الحركة الشعبية في الجنوب، من قرار مجلس الأمن الأخير الذي يدعو حكومة الخرطوم الى الحوار مع هذه الجماعات وهو ما رفضه حزب المؤتمر الحاكم في السودان رفضاً قاطعاً. ويكشف ذلك أن خطة الدول الغربية تقوم على اثارة الصراعات وتبني المجموعات الانفصالية وتوفير الغطاء الدولي لها ومدها بالدعم اللازم لفرضها على طاولة المفاوضات وصولا الى تمكينها من تحقيق مطالبها الانفصالية. ويؤشر ذلك الى أن الصراع في السودان وعلى السودان لن يتوقف، طالما هناك قوى محلية مرتبطة بالدول الغربية الاستعمارية، وطالما أن دولة السودان ترفض الرضوخ لاشتراطات هذه الدول وتقاوم التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية. غير أن ما يجعل الأمور معقدة والصراعات مستمرة واستنزاف السودان ومنعه من استغلال ثرواته والمحافظة على استقلاله الوطني يتواصل، هذا الكم الكبير من المشاكل المتراكمة والتي تفجر الصراعات في الأقاليم، وتركب موجتها الدول الاستعمارية والعدو الصهيوني للنفاذ منها الى قلب السودان، والعمل على تقويض وحدته ارضا وشعبا، وتجزئته ومنعه من بناء دولته القوية الواحدة القادرة على تحقيق التنمية والتقدم، وحماية استقلال السودان بعيدا عن أي تبعية للأجنبي. ولهذا فانه يقع على عاتق الحكم في الخرطوم مهمة العمل على ثلاثة اتجاهات لإحباط هذا المخطط الاستعماري الصهيوني الغربي: الاتجاه الأول: التصدي بحزم للمجموعات الانفصالية وممارسة تعبئة وطنية شاملة لفضح ارتباطاتها الخارجية. الاتجاه الثاني: العمل الحثيث لتعزيز الوحدة الوطنية للشعب السوداني، من خلال اشراك جميع القوى الوطنية الرافضة للتدخلات الأجنبية ولمخطط تقسيم السودان، لأن ذلك يسهم في تعزيز المناعة الوطنية، وحشد الطاقات في مواجهة الهجمة الاستعمارية وأدواتها المحلية. الاتجاه الثالث: انتهاج سياسة تنموية، لا تقتصر فقط على العاصمة والدن الرئيسية في البلاد، بل وتشمل المناطق الفقير النائية، والعمل لتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية، لأنه من دون ذلك لا يمكن تحفيز الشعب على الانخراط في معركة الدفاع عن وحدة السودان، وحفظ استقلاله الوطني، واستطراداً اضعاف وعزل المجموعات الانفصالية المرتبطة بالخارج. المصدر: الوطن القطرية 12/5/2012م