يبدو مسار تهيئة وإعداد الأجواء للمفاوضات السودانية الجنوبية مساراً متعرجاً، شديد الوعورة، محاطاً بالمطبّات والعقبات رغم الجهود الماكوكية الحثيثة التي شرع في بذلها رئيس الآلية الأفريقية الرفيعة الرئيس (ثامبو أمبيكي). أمبيكي قال للصحفيين الأسبوع الماضي أنه يتوقع استئناف المفاوضات في بحر هذا الأسبوع وربما كان الرجل قد قال ذلك وبين يديه بعض المؤشرات والتي أبرزها استطاعته الحصول علي تأكيدات مبدئية بعدم ممانعة الطرفين لإستئناف المفاوضات وذلك من واقع لقاءات عقدها مع الجانبين كلٌ علي حدا في الخرطوموجوبا. كما أن أمبيكي أيضاً ربما كان يضع في اعتباره الموافقة المبدئية التي حصل عليها من الجانبين بإنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح بعُمق (10) كلم علي الجانبين، فهي نقطة تخدم الملف الأمني أحد أبرز وأهمّ الملفات التي تشكل مفتاحاً رئيسياً للأزمة. ولكن لا يلوح في الأفق رغم كل هذا القدر من الحراك والجهود التي يبذلها أمبيكي ما يشير إلي إمكانية إنجاح التئام الجولة نفسها، دعك من نجاح الجولة وإحرازها تقدماً علي صعيد القضايا المُراد بحثها. ولعل أسباب ذلك ترجع إلي ما بات يظهر جلياً من أن جوبا بدفع من واشنطن وتل أبيب تنظر إلي الأمر نظرة مغايرة كلية، بحيث يتأزَّم الوضع ويفضي إلي حرب شاملة بين الدولتين. ولعل أصدق تأكيد لهذه النقطة ما عبَّر عنه المبعوث الأمريكي الأسبق إلي السودان (أندرو ناتسيوس) مؤخراً في صحيفة الواشنطن بوست من ضرورة تسليح الجنوب وتقوية عضلاته ليخوض حرباً ضد السودان. لم يكن ما قاله ناتسيوس – وفق منطق الأنباء – نابعاً من فراغ أو كان مجرد خاطرة سياسية كخواطر الشعر دهمته وعبّر عنها علي الورق. من المؤكد أن ناتسيوس كان يعبر عن إستراتيجية أمريكية جرى نقاشها علي عدة مستويات في مطابخ القرار في واشنطن، ليس اليوم أو الأمس وإنما منذ مدة ليست بالقليلة، ذلك أن هاجس واشنطن ما يزال يدور حول كيفية إضعاف السودان وتقوية دولة الجنوب علي حسابه لضمان السيطرة علي السودان عبر وكيل محلي وجار قريب! وليس من المستبعد في هذا الصدد، أن ما أورده ناتسيوس في مقاله كان بمثابة (بالون اختبار) لقياس ردود الفعل الدولية والإقليمية، فهذا أسلوب أمريكي معروف إذ حينما تريد واشنطن أن تقدم علي فعل شيء فإنها تبدأ ببث مبررات ودواعي بطرق مختلفة بحيث تهيئ الرأي العام عبر عمل إعلامي هادئ، ورزين للمرحلة المقبلة ولما تنوي فعله. فعلت ذلك قبل غزوها العراق ووصلت إلي مرحلة فبركة تقارير إستخبارية عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. إذن واشنطن لا تريد سلاماً بين جوباوالخرطوم، علي الأقل في الوقت الراهن لأنّ هذا السلام لا يحقق لجوبا المزايا التي تريد لجوبا امتلاكها إذ سيظل السودان هو الدولة الأم القوية القادرة علي إلحاق أيّ هزيمة في أي وقت بالحكومة الجنوبية، كما سيظل السودان هو المسيطر علي مورد النفط إنتاجاً وتصديراً. لا تريد واشنطن هذا الوضع الذي لا يحقق لها موقعاً إستراتيجياً في المنطقة ولا يحقق للدولة الجنوبية القدر المطلوب من الحركة في المنطقة ؛ ولهذا فإن هنالك الآن تعثُّر واضح في سير التحضير للمفاوضات وترفع جوبا صوتها رافضة ما تعتبرها اشتراطات مسبقة يشترطتها السودان لمجرد أن السودان طالب فقط بإيلاء الملف الأمني أولوية قصوى بين كافة بنود التفاوض، وقد رأينا كيف عملت واشنطن بالتوازي مع ذلك علي تعقيد الأمور أكثر، حين هدّدت مندوبها في مجلس الأمن سوزان رايس الجانب السوداني بضرورة الإنسحاب من أبيي، وفي الوقت نفسه عملت علي إصدار تعديل تشريعي يمنع منح المنح والمعونات للدول التي تستقبل الرئيس البشير. كان واضحاً أن مثل هذه التحركات تكتيكية وهدفها الأساسي التضييق علي الخرطوم والعمل علي عرقلة المفاوضات بشتي السبل، ولهذا لا يعوِّل الكثير من المراقبين علي إمكانية انطلاق المفاوضات قريباً ولو انطلقت قريباً فإن من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تحرز تقدُماً علي أيّ صعيدٍ كان!