علي قدر ما في السياسة من أخلاق ولو كانت في حدود ما يحقق ولو القدر اليسير من الأهداف الوطنية، إلاّ أن عدداً من العاملين في مجال اللعب السياسي في السودان افتقدوا حتى ذلك القدر والنذر اليسير. والقصة في مجملها مؤلمة ومحزنة، ذلك أن الشرف الوطني والثياب الناصعة البياض في مدارج الوطن هي الأبقي وليس سواها، إذ ما فائدة السياسي الذي يبيع كل شيء ولكل من يشتري وبأبخس الثمن لمجرد فشله في إثبات وجوده في السوق السياسي الوطني العريض. علي سبيل المثال، سياسي مثل السيد مبارك الفاضل، جرَّب كل شيء ولا يزال يجرِّب، وتمني كل شيء ولا يزال يتمني إلاّ أن الرجل لم يستفد من تجاربه شيئاً، ذهب إلي دولة الجنوب وغرق في مستنقع اقتصادي ظاهراً ولكنه استخباري أمني في حقيقته. الرجل يبيع ويشتري (كل شئ) هناك، تدفعه خصومة غير شرعية وغير سودانية ضد الحاكمين لا يردعه رادع وطني، ولا تحول بينه وبين (تجارته السياسية) أمانة وطنية حتى أضطر رفاقه في حزب الأمة لوصفه علناً بالخائن! وعلي ذات الطريق مضي نصر الدين الهادي، حيث خدعته بروق استوائية باتجاه يوغندا وكينيا فيما يُعرف بالجبهة الثورية فسارع لدخول سوقها وهو لا يملك رأسمالاً سوي مبادئ وقيم، باعها في أقرب منعطف، وقد وصل الأمر به كما وصل من قبل بمبارك الفاضل درجة (التعاون الوثيق) مع استخبارات الجيش الشعبي، ليس فقط ضد الحكومة السودانية ولكن حتى ضد السودانيين المقيمين هناك! تصوَّر عزيزي القارئ رجلاً سودانياً يرتدي جبة أنصار المهدي، يصبح (أداة طيّعه) في يد الحكومة الجنوبية تضرب بها علي رؤوس بني جلدته. تصور رجلاً يدعي أنه حفيد الإمام المهدي يتبرع بالمال للجيش الشعبي (سراً) ويقدم المساعدة والمشورة من أجل اقتلاع نظام الخرطوم. أما علي صعيد الداخل، فإن رجلاً مثل فاروق أبو عيسي يتمسح بمسوح الديمقراطية وحقوق الإنسان ويتشدَّق بالحرية، ولا يتورع من التجوال بين ردهات السفارات الأجنبية طالباً الدعم أعطوه أو منعوه! ثم يخرج لميكرفونات الإعلام ويطالب بإسقاط النظام ثم ما يلبث أن يعود ليطالب بالمشاركة في مفاوضات أديس أبابا! الرجل شديد الاعتداد بأيدلوجيته ولكنه غير مقيّد بسودانيته ووطنيته التي تخلي عنها تماماً. رجل آخر مثل التوم هجو، إعتقد أن الجبهة الثورية هي المركب الأسرع والسهل لإجتياح الخرطوم ؛ لم يفكر ولو للحظة أين تكوَّنت ومن كونها ولأيّ هدف؟ ولم يفكر قط كيف أن الذين عملوا علي إنشاء هذه الجبهة بملامح محددة ولأغراض عنصرية واضحة كالشمس. ذهب إلي هناك وفوجئ بأن النضال إنما هو نضال فنادق و(حانات) وليالي صاخبة فغرق فيها (حتى الثمالة)! وأما الشفيع خضر، أحد منسوبي الحزب الشيوعي، فقد استهوته الأسفار من (دوحة) إلي (دوحة) ومن عاصمة ضباب إلي عاصمة مرتفعات وناطحات! ارتدي أبهي وأفخم الحلل، وإرتضي دولارات الدول الرأسمالية التي كان يحاربها بضراوة وهو ينطلق من ماركسيته الحمراء القانية. ولعل أغرب ما في هذا الشفيع، أنه لم يشفع لأحد ولم يشفع له أحد حراكه الدولاري المتواصل. وهنالك علي صعيد الحركات المسلحة يبرز بقوة مني أركو ميناوي، التائه، الوحيد الذي ما ترك عاصمة أفريقية إلّا ومرَّ بها آملاً في ملاذٍ أمن، متمنياً دعماً تشوينيّاً، ورضيَّ بالقليل الذي نفحه به موسفيني ولكنه سرعان ما فشل في المهمة حيث لم يستطع اجتياح أي قرية دارفورية ولم تتمكن قواته المهترئة من الثبات. ميناوي الآن استنفذ كل فرصة، وخسر كل العواصم التي راهن عليها وما تبقت له سوي جوبا، وجوبا لا تحنو عليه بقدر ما تحاول (استثماره) إلي أجل! أما عبد الواحد نور فحدِّث ولا حرج، ضاقت منه وضاقت به باريس وضاقت منه جوبا. حتى كمبالا نفسها لم تجد حاجة في التعامل معه، فالشاب القليل الخبرة لم يعد مفيداً للأجهزة الاستخبارية التي قدم لها خدماته، لأنه -ببساطة- لا يُحسن تقديم الخدمات بالصورة المطلوبة ولو في أدني السلم. ولم يتبق سوي جبريل إبراهيم خليفة خليل الذي لم يحصل علي قبول وسط قادته، فالرجل لا يعرف حتى أبسط أمور الإدارة؛ وترَك القيادة الميدانية لآخرين وابتعد عن القوات ولديه هاجس متواصل من الاغتيال لدرجة (الفوبيا) المرضية. إنهم أناس فضّلوا ترك محالهم السياسية والتفرغ لمهنة الباعة الجائلين؛ أرباحهم لا تتعدي ما يملأ بطونهم و يفي بمتطلبات المزاج والكيف!