نجح المؤتمر الوطني – حتى الآن – فى إرباك حسابات القوى السودانية المعارضة التى عزمت على إستثمار الأزمة الاقتصادية الراهنة لإسقاط الحكومة كما أقرّت بذلك فى إجتماع عقدته الاسبوع الماضي في دار الحزب الوطني الاتحادي بأمدرمان. الاستراتيجية التى بني عليها الوطني خطواته كانت فى غاية البساطة وإن لم تخلُ من مخاطر يبدو أنه حسب حساباتها بدقة متناهية. فقد انتهج الوطني نهج شفافية مفرطة كشف فيها عن عمق الأزمة ومسبِّباتها ومن ثم أهمّ رؤاه لحلِّها ؛ حيث لم ينكر أن الإنفاق العام الحكومي جزء من الأزمة وسعي لتقليله بإتباع سياسة جراحية شديدة الوطأة والخطورة ولكي يتبع القول بالعمل وحتى لا يقدم حلولاً أقرب للنظر منها للعمل والواقع، فقد أقرّ خفض جهازه التنفيذي على كافة المستويات الى النصف. ومع ما فى هذا الاجراء من مصاعب وآثار جانبية ضارة قد تثير حنق بعض قادة ومنسوبي الحزب، خاصة فى الولايات، إلاّ أنه أصرّ على إقرار هذه السياسة بثقة وعزم. إنتهج الوطني أيضاً نهجاً صريحاً واقعياً حين قرر رفع الدعم عن المحروقات وهو إجراء يقرّ الكثير من الخبراء أنه ضروري لإصلاح الاقتصاد السوداني عموماً، ليس فقط لمواجهة هذه الازمة، وهو إجراء كما قال ذات الخبراء، عالي الكلفة سياسياً، مهما كانت طبيعة التقديرات السياسية والتدابير المتخذة، لأنه يثير سخطاً شعبياً جراء إرتفاع تكاليف المعيشة، ولكن الوطني -بذات القدر من الثقة التى جعلته يواجه عضويته بالتقشف- فضَّل مواجهة مواطنيه بهذا الإجراء الصعب أملاً فى إصلاح استراتيجي يرفع العبء عنه وعن أىِّ حكومة تحكم فى المستقبل حتى لا تضطر لإدارة اقتصاد فيه إختلال بالإمكان معالجته. هذا النهج بنظرة موضوعية ما كان بالإمكان تطبيقه أو حتى مجرد التفكير فيه إذا كان الوطني مضطرب الجنان، مهتز الخطي، مرتعش الاوصال. ولعل هذا الثبات السياسي هو ما دفع بقية القوى المشاركة فى الحكومة لتطرح مواقف ايجابية تصب فى ذات المصب مثل قرار جماعة انصار السنة المحمدية إستعدادها سحب جميع منسوبيها المشاركين فى الحكومة لإفساح المجال لقيادة الدولة لإنفاذ السياسة التقشية التى تريدها بلا حرج ولا هواجس أو مخاوف. وما كان لجماعة أن تقرر ذلك لو لم تستشعر جدية الوطني وجدية الأزمة ومقدار الصراحة والشفافية التى انتهجها، إذ ليس مُهِمَّاً هنا ما إرتكبه الوطني من أخطاء فى السابق، ففي العمل السياسي وفى الشأن الاقتصادي على وجه الخصوص الأهمية دائماً للحظة الآنية الفارقة وكيفية مواجهتها بأقصي قدر من الحزم والإرادة القوية. من هذه الزاوية يمكن القول إن الوطني أربك حسابات قوي المعارضة التى يبدو أن كل حساباتها كانت قائمة على فشل الحزب فى إيجاد الحلول، أو خوفه من الإقدام على تلك الحلول ومن ثم دخوله فى حالة تردُّد، تعصف به، فتسقط الثمرة الناضجة الشهية فى عب قوي المعارضة . ليس معني ذلك بحال من الأحوال ان الوطني قد تجاوز التحدي فالطريق شاق وطويل أمامه وهو لا يزال فى بداياته، كما ليس معني ذلك أنه لن تكون هنالك متاعب وآثار جانبية فقد بات من المحتم أن تواجه الحكومة ردة الفعل الشعبي كأمر طبيعي فى ظل مناخ ديمقراطي يسمح بالتعبير السياسي والتظاهر فى حدود رسمها القانون . وعلى كلٍ فإن قوي المعارضة التى أحجمت عن المشاركة فى تقديم الرؤي والمقترحات وانتظرت فقط وقوع الطامة، يبدو عليها أن تنتظر طويلاً، وطويلاً جداً وتبحث عن مناسبة أخري!