حدّثنا التاريخ بلغة الواقع والأحداث أنه عندما تصل التناقضات الطبقية والصراع بين قوى التراجع وقوى التقدّم، إلى ذروتها، تلجأ القوى المسيطرة مدعومة ممن يقف خلفها من أمثالها خارج الحدود، إلى إعادة إنتاج نفسها للحصول على تمديد زمن بقائها، لكن تبقى التجارب متنوعة وليست مستنسخة، وفي جوهر الحركة الصراعية تكمن عوامل كثيرة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، وتتجه الحركة وفقاً لتفاعل العوامل . الأمة العربية تمر في هذا المخاض الآن، وفي المشهدية العربية ليس سراً ولا خافياً أن العالم العربي ليس منزلاً مؤمّن الحدود السياسية كما كانت الحدود الجغرافية قبل أن تصبح في أماكن كثيرة مشاعاً لكل مَنْ هبّ ودبّ . المنزل العربي مشرّع النوافذ على كل أنواع الرياح، لذلك لا يمكن الاتكاء على تطور نقي صاف وصناعة وطنية تمليها المصالح والاستحقاقات الوطنية والقومية (هذه الكلمة الأخيرة قيد الشطب) . الشعوب عادة لا تفكّر جماعياً، وفي هذا يستوي الجميع بمعزل عن مستوى التطور والتخلّف، لأنها ليست مجسّمة في جسد وعقل، لهذا كانت على مر التاريخ بحاجة إلى قيادة تمثل في عقل مصغّر العقل الجمعي لشعب أو أمة . حتى في المراحل الأولى من التاريخ، كانت التجمعات البشرية تسلّم أمورها، فطرياً، لقيادات تحدد المسير وتجترح الحلول وتقود عملية البحث عن الاحتياجات والدفاع عن الذات الجماعية، بل حتى قطعان الحيوانات لها قيادة و"لغة" تواصل . عبر التاريخ، تفرز القيادة من القوى المسيطرة، وحتى عندما تبلورت الاتجاهات الحديثة نسبياً على شكل عمل سياسي حمل عناوين وأدوات وآليات لتحديد أشكال النظم والحكم، ووصلت إلى ذروتها بالأشكال الغربية معبّراً عنها بالديمقراطية الانتخابية، انطوى هذا التطور على تغيير كبير أو انقلابي في الشكل، مع تغيير ضئيل في المضمون، ذلك أن القوى الطبقية المسيطرة بقيت على سيطرتها، وظل اختيار القيادات التنفيذية والتشريعية مرهوناً بالقدرة الاقتصادية التي تستطيع وحدها تأمين سلّم صعود النظم والقيادات . لذلك، لا يمكن الصعود إلى دفة السلطة في الديمقراطيات الغربية لأشخاص من خارج البرجوازية المسيطرة، ولا يمكن أن تتكحّل عيون الفقراء في الدول الرأسمالية برؤية أحدهم، مهما بلغ من الكفاءة والقدرات العقلية والسياسية، يخوض صراعاً في انتخابات رئاسية، ولا حتى التشريعية على نحو كبير . القوى المسيطرة تستفيد من تجاربها الخاصة وتجارب غيرها، وهي إلى أجل مسمى قادرة فعلاً على تجديد نفسها وإعادة إنتاج نظمها . فهي إلى جانب قوتها الاقتصادية التي أمسكت أيضاً بمفاصل التصنيع العسكري وحافظت على الجيوش والأمن حصناً لديمومة السلطة، نجحت أيضاً في تشكيل جيوش لا تقل أهمية وتأثيراً، بل أشد فعالية في المعارك الحاسمة . هنا يدور الحديث عن إمبراطوريات الإعلام وجيوش المثقفين العاملين بالأجرة . عندما يعمل المثقّف بالأجرة وعلى هدي المصالح الشخصية، يجنّد كل طاقته الذهنية وما تيسّر له من إمكانات ليّ أعناق الحقائق، خدمة لمشغّليه . كيف للبسطاء من الشعب أن يحكموا على ولاة أمرهم من دون هذه الواسطة الإعلامية والثقافية؟ . . هذه الواسطة تصنع “الحقيقة" كما يفعل النحّات بالصخرة، لا كما يفعل الطفل بالعجينة حيث يتصرّف ببراءة وبغياب القصدية والتجريد المسبق للنتيجة والقصد . ليس من أفق واضح تتحدد فيه المشهدية العربية، لأن التغيير إذا تم التحكّم المسبق بخياراته بتدخلات من الخارج مهما بلغ شكلها ومستواها، لا يمكن أن يكون على المقاس الذي يخدم مصالح الشعوب العربية التي تجد نفسها أحياناً بين خيارين أحلاهما مر، أحدهما اجترار للماضي والثاني استنساخ له بعناوين جديدة وبطلاء من لون آخر تحته المعدن نفسه . الخيارات الثورية النوعية، لم تظهر بوادرها بعد، وهي بحاجة إلى تبلور شروطها ونضج ظروفها وتوافر أدواتها، وبالأساس القيادة والبرنامج الواضح والاستقلال عن خارج معاد تاريخياً . المصدر: الخليج 25/6/2012م