نادراً ما شهد التاريخ سبباً لمشكلة اقتصادية كبرى كان بالغ الوضوح، غير أن عدداً قليلاً جداً من الناس كانوا على استعداد لملاحظته. السبب الرئيسي في أن الانتعاش الاقتصادي الأميركي كان ضعيفا جداً، ليس أزمة الديون في أوروبا، وليس كما يقول لنا خبراء الاقتصاد اليمينيون؛ لأن الضرائب على الشركات والأغنياء مرتفعة للغاية، ولأن شبكات الأمان أوسع من نطاق المحتاجين، ولأن التشريعات المفروضة على الأعمال التجارية ثقيلة. والسبب ليس كما يزعم بعض الليبراليين، لأن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لم تنفق ما يكفي على الخطة الكينزية للتحفيز المؤقت. والجواب ماثل أمام أعيننا؛ فالسبب يرجع إلى أن المستهلكين الأميركيين، الذين يشكل إنفاقهم 70% من النشاط الاقتصادي، ليست لديهم الوسيلة لشراء ما يكفي لتحقيق ازدهار الاقتصاد، ولم تعد لديهم القدرة على الاقتراض كما كان بوسعهم قبل اندلاع الأزمة في عام 2008. إذا كان لديك أي شك، فعليك إلقاء نظرة على المسح الذي أجري بشأن التمويلات الاستهلاكية، والذي أصدره مجلس الاحتياطي الفيدرالي مؤخراً. فقد كان دخل الأسرة المتوسطة 49,600 دولار في عام 2007، وبحلول عام 2010 بلغ الدخل 45,800 دولار، بانخفاض نسبته 7.7%. جميع مكاسب النمو الاقتصادي كانت تذهب إلى أغنى 1% من المجتمع الأميركي، الذين كانوا أغنياء جداً، ولا ينفقون أكثر من نصف ما يكسبون. هل يمكنني أن أقول هذا بشكل أكثر بساطة؟ إن إيرادات الطبقة الوسطى الأميركية الكبيرة، كانت تحفز التوسع الأميركي الكبير على مدى ثلاثة عقود بعد الحرب العالمية الثانية. افتقارها النسبي إلى الأرباح في السنوات الأخيرة، دفعنا في اتجاه الانهيار الأميركي الكبير. بدءاً من حوالي عام 1980، بدأت العولمة والأتمتة تمارس ضغوطا على الأجور المتوسطة، وبدأ أرباب العمل يفككون النقابات العمالية من أجل كسب المزيد من الأرباح، وبدأت الأسواق المالية المحررة من التشريعات على نحو متزايد تسيطر على الاقتصاد الحقيقي. وكانت النتيجة تباطؤ نمو الأجور بالنسبة لمعظم الأسر على نحو مؤلم، وبرزت المرأة في الأعمال بالأجر من أجل دعم دخل الأسرة. وعندما توقفت عجلة النمو عن الدوران، دخلت الأسر في غياهب الدين، من خلال استخدام القيم المرتفعة لمنازلهم كضمانات للقروض، ومن ثمّ انفجرت فقاعة الإسكان. يظهر أحدث تقرير من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، إلى أي مدى كان الانفجار مدوياً. وبين عامي 2007 و2010 (وفقاً لأحدث البيانات المتاحة)، انخفضت قيمة الأجر المتوسط للعائلات الأميركية بما يقرب من 40%، وصولاً إلى مستويات لم تشهدها منذ عام 1992. وتعد الثروة النموذجية للأسرة هي منزلها، وليست محفظة الأوراق المالية الخاصة بها، وانخفضت قيمة المنازل بنسبة الثلث منذ عام 2006. وخلاصة القول، إن الاقتصاد الأميركي لا يزال يكافح، لأن الطبقة الوسطى الأميركية العريضة لا يمكن أن تنفق المزيد ليبدأ الاقتصاد انطلاقته الأولى. ما هو العمل؟ ليس هناك جواب بسيط على المدى القصير عن هذا السؤال، إلا أن نأمل في البقاء عند الخطوة الأولى للأمام ولا نرتد إلى الوراء. وفي المدى الأبعد، فإن الجواب هو التأكد من أن الطبقة المتوسطة تجني المزيد بكثير من مكاسب النمو الاقتصادي. كيف؟ لعلنا نتعلم شيئاً من التاريخ.. فخلال عقد العشرينات من القرن الماضي، تركّز الدخل في الطبقة العليا، وبحلول عام 1928 كانت فئة 1% الأعلى تنعم بنسبة 23.94% المذهلة من إجمالي الدخل، أي ما يقرب من 23.5% مما تحصل عليه طبقة أعلى 1% في عام 2007. عند هذه النقطة انفجرت الفقاعة، وسقطت أميركا في الكساد الكبير. ولكن جاء بعد ذلك قانون واغنر، الذي يشترط على أرباب الأعمال التفاوض بحسن نية مع النقابات العمالية المنظمة، والضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة، وإدارة مشاريع الأشغال وهيئة الصيانة المدنية، وحد أدنى للأجور. ومن أجل احتواء وول ستريت، تم تشريع قانون الأوراق المالية وقانون غلاس- ستيغال. في عام 1941، خاضت أميركا الحرب، حيث جرت تعبئة واسعة جنّدت كل البالغين الأميركيين القادرين صحياً على العمل، وتم تزويدهم بالمال. وبعد الحرب، تم سن قانون "جي آي" الذي أرسل الملايين من الجنود العائدين من الحرب إلى الكليات، وتم التوسع في نطاق التعليم العالي العام، وجرت استثمارات كبيرة في البنية التحتية، مثل مشروعي الطريق بين الولايات والطرق السريعة الدفاعية، وظل معدل الضرائب على الأغنياء عند ما لا يقل عن 70% حتى عام 1981. والنتيجة هي أنه بحلول عام 1957، حصلت طبقة ال1% الأعلى من الأميركيين، على نسبة 10.1% فقط من إجمالي الدخل القومي. ذهب معظم ما تبقى إلى الطبقة المتوسطة المتنامية، والتي حفّز أعضاؤها أكبر طفرة اقتصادية في تاريخ العالم. هل وصلت الرسالة؟ إننا لن نخرج من الدفعة الأولى حتى تستعيد الطبقة المتوسطة القدرة على المساومة، التي كانت لديها في العقود الثلاثة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، للمطالبة بحصة أكبر بكثير من مكاسب النمو في الإنتاجية. المصدر: البيان 3/7/2012م