عرف العمل السياسي منذ عقود العمل الجبهويّ، ذلك الذى يجمع بين عدة قوى حزبية ومنظمات مجتمع مدني ونُخب تضطرّها ظروفاً ما للعمل معاً وفق رؤية حد أدني موحدة وإطار سياسي واضح لتحقيق أهداف محددة عبر إتباع وسائل محددة. وعرف العمل السياسي فى السودان فى تاريخه القريب، فى أواخر الخمسينات العمل الجبهوي حين ظهرت جبهة الميثاق الاسلامي التى ضمت عدة قوى سياسية تحت لافتة الدستورالاسلامي وتواثقت فى هذا الصدد على (ميثاق) أياً كانت محدداته وتوجهاته، فهو على أية حال - بظروف ومعطيات تلك الحقبة - كان ميثاقاً محدداً وواضحاً ؛ كما عرف ذات التاريخ فى الستينات جبهة الهيئات التى ضمت عدداً من الهيئات ذات الصبغة الفئوية، هى الأخري كانت على أية حال ذات أهداف محددة ورؤي بعينها. هناك أيضاً الجبهة الوطنية التى تكونت فى منتصف سبعينات القرن المنصرم وكانت تضم ايضاً قوي حزبية فاعلة، كان أبرز أنشطتها محاولة الإطاحة بنظام الرئيس نميرى يوليو 1976 عبر عمل مسلح فشل وقتها لأسباب ما يزال التاريخ يتفاعل حولها وأصبحت فى حد ذاتها عبرة تاريخية وافرة الدروس والعظات. هنالك ايضاً جبهة نهضة دارفور التى تصدرها المتمرد أحمد ابراهيم دريج وهنالك الجبهة الاسلامية القومية التى تشكلت عقب انتفاضة السادس من ابريل 1985 وأصبحت حزباً سياسياً. هنالك جبهات أخري لا يتسع المقام هنا للتعرّض لها ولكن المهم فى كل ذلك أن هذه الجبهات -على الأقل- كانت معروفة الرؤي والتوجهات، واضحة الظروف والأهداف. ومع أنها لم تخلُ من خلافات إلاّ أنها كانت خلافات معتادة فى نطاق ضيق، غير أنّ كل ذلك فى جانب، وما يسمي بالجبهة الثورية المنشأة حديثاً فى كمبالا بيوغندا جانب آخر مختلف تماماً، والفارق الجوهري بين تلك الجبهات وهذه أن ما يسمي بالجبهة الثورية ليست تحالفاً سياسياً قائم على رؤي وطنية بريئة ونظيفة، فقد أشرف على إنشائها النظام اليوغندي ونظام الحركة الشعبية الحاكم في جنوب السودان، كما أن قادتها (عقار وعرمان وعبد الواحد ومناوي والحلو والتوم هجو ونصر الدين الهادي) هم أشتات، بعضهم ليست له أىّ مرجعية سياسية واضحة (عرمان وعقار)، بإستثناء أنهم (جزء) من ماكينة جنوبية، تدور لصالح أهدف جنوبية محضة وعرمان وعقار ليسوا سوي (جنود) فى يد السلطة الجنوبية، ليست لهم أحزاب سياسية، ولا تاريخ سياسي مشرِّف أو غير مشرف فى الساحة السياسية السودانية وبعضٌ آخر ليست لديهم قضية واضحة ولا رؤي فكرية (مناوي وعبد الواحد) وإنما وقعوا بمحض إراداتهم فى يد الموساد الاسرائيلي والحركة الشعبية ونظام الرئيس اليوغندي موسفيني، وبعضٌ آخر (هربوا) من حظائر أحزابهم لأهداف شخصية وخاصة أمثال (التوم هجو، ونصر الدين الهادي) وحتى هؤلاء لو كانوا يمثلون أحزابهم ( الإتحادي الأصل والأمة) فإنهم ليسوا من القادة البارزين المؤثرين، ويمارسون الآن مجرد دور هامشي (كومبارس) فى جوقة موسيقية متناقضة الألحان. شتات متناثر كهذا يصبح من العبث تماماً أن يُقال إنه بمثابة جبهة، والأدهي وأمرّ أن كل واحد منهم، (قبض الثمن مقدماً)، ففي بنوك كمبالا هنالك حسابات بالعملة الصعبة لكل هؤلاء القادة كأموال خاصة بهم. وفشلت كل محاولات عقد إجتماع بينهم أكثر من مرة، فالخلافات شخصية وسياسية واستخبارية نظراً لتعارض المصالح وإختلاف الثمن من واحد لآخر! وسبق لهم أن (تنابذوا) بألقاب عنصرية موثقة بلغت مبلغاً لا يتصوره أحد قط! كيف لهؤلاء الهائمين على وجوههم فى عواصم مجاروة وأخري بعيدة أن يكوِّنوا جبهة؟ كيف لمن حاولوا إحراق سفارة دولتهم فى لندن فى مسلك مشين أثار حنق الحكومة البريطانية أن يكونوا نخبة تقود جبهة حقيقية؟ وكيف لمثل هؤلاء أن يكونوا (ثواراً) ؟ فالثوار لا يحرقون وثائق وسفارة بلادهم فى عاصمة غربية هى محط أنظار الكل. إن الثوار لو كانوا ثواراً حقاً لناضلوا من داخل السودان وتحلّلوا من أموال الأجانب والأرباح الحاضرة والآجلة. الشيك الأجنبي هو شيك سياسي باهظ الفوائد والأرباح المؤجلة؛ والثوار لا يرتِّبون على بلادهم وعلى عاتقهم مثل هذا الدين. لقد كلّف هؤلاء أنفسهم ومن يقفون وراءهم مئات الملايين من العملات الصعبة والنتيجة ما تزال صفراً، وحقّ لها أن تكون صفراً لأن الوسيلة محرمة وطنياً، والهدف عصيّ، والعملية من أولها الى آخرها ليست سوي عمالة إستخبارية مهما حاولوا مداراتها وتجميلها والمخادعة بها.