ولأنه يدرك أنه لا سواه من غزل نسيج المشاركة خيطاً بخيط، آثر رئيس الحزب الاتحادي الاصل مولانا محمد عثمان الميرغني نفسه التصدي لما ظلت تهمس به مجالس المدينة طيلة الاسبوعين الماضيين عن إنسحاب حزبه من الحكومة قبل ان تنطوي صحيفة شهور المشاركة التسعة، وعلى غير العادة حيث ظل على الدوام يكلف من ينوب عنه لإعلان موقفه ؛ حملت صحيفة الشرق الاوسط اللندنية يوم الخميس إفادات حازمة للرجل تؤكد إلتزامه بوثيقة الشراكة المبرمة بينه وبين المؤتمر الوطني وأنه لا نية البتة للإنسحاب، ما زاد من حزم إفادته المفرادات القاسية التى اختارها بدقة وعناية فائقيتن للرد على المطالبين بالانسحاب داخل أروقة حزبه حتى وإن كان من بينهم نجله الحسن وأكثر قادة الحزب اليه قرباً حاتم السر و بالضرورة نائبه على محمود حسنين، الذى لا يدرك أحد حتى الآن كنه نيابته حيث لا تتجلّي لا فى القول ولا فى الفعل و كلاهما يسيرعكس اتجاه الآخر. 1 لك أن تتخيل ان الميرغني لاذ بوصمة صمت عميقة دائماً ما تسبق إجابته على أى سؤال محوري قبل ان يدلف الى الاجابة علي سؤال محاوره عن ما تردد عن الانسحاب، سيبتسم الميرغني إبتسامته المعهودة الواثقة ثم يجيب : الإنسحاب ليس نزوة ولا مغامرة ولا إستخفافاً، فهو مسئولية وطنية وقومية تماماً كمسئولية قرار المشاركة. ولا يصعب على المرء تبيُّن هوية المغامرين والمستخفِّين بقضية الوطن الذين عناهم الميرغني خصوصاً مع مراجعته لقوله مفردات غارقة فى الحزم : قرار المشاركة فرضته الاعتبارات الوطنية ومواجهة المخاطر المحدقة بالوطن. وتذكيره لمن يقصدهم بأن (المواقف المبدئية تجاه الوطن غير قابلة للمزايدة وللافترضات، والاستخفاف وستظل قضية الوطن وحمايته راية مرفوعة غير قابلة للإنتكاس وسنظل متمسكين بالبرنامج الوطني المتفق عليه). ولأن الميرغني يدرك جدياً أنه من سيتحمل تبعات قرار المشاركة سواء كان سلبياً أم أيجابياً يبدو إحتمال فرضية (الإتبلبل يعوم) حتى لآخر الشوط لإستنفاذ كل الفرص التى تمكنه من إثبات صحة قرار المشاركة وجدواها وفقاً للبرنامج المتفق عليه مع المؤتمر الوطني، إذ لا يعقل القفز من سفينة المشاركة كما ينادي أغلب حوارييه فيكون قد أعلن هزيمته بنفسه بعد ان أثبت خطل القرار الكارثي. 2 إلا أن المفارقة تكمن فى إصرار الميرغني على إنفاذ مبادرته للوفاق الوطني الشامل بعد ان إنتفت عنه صفة الحياد التى إتكأ عليها ردحاً من الزمن عبر الطريق الثالث الذى إختطه بنفسه وعنونه بثلاث لاءات ( لا للمشاركة إلا مع الكافة، و لا للتكتلات العدوانية ضد المؤتمر الوطني، ولا للإنفصال) وهى الصفة التى كان بمقدروها إنجاح مبادرته ولعب دور الوسيط الصادق المصدوق بين الأطراف المصطرعة وهى الصفة التى إنتقت بعد إنحيازه العلمي لأحد طرفيّ الصراع، بعد أن (نعمت لاءتين) وبقيت الثالثة، وهو إنحياز تمددت شواطئه حتى وصلت تخوم دولة الجنوب وهو يرهن زيارته لها بتعهد حكومتها بوقف العدائيات ضد السودان وضد المواطنين وممتلكاتهم داخل حدود السودان وكذلك القبائل على الحدود المشتركة مع الألتزام بالاتفاقيات الموقعة معها، وهو بالضرورة يقصد اتفاقية الميرغني/قرنق قبل غيرها وهى إشتراطات لم يسبق للميرغني تصدرها خصوصاً ناحية الجنوب، حيث ظل على الدوام يسعي لفض الاشتباك الدموي بين شطري البلاد متمتِّعاً بعلاقات وثيقة مع القادة الجنوبيين منذ 16 نومفبر 1988 مروراً بحقبة التجمع الديمقراطي الوطني الذى ترأسه من المهد الى اللحد وحتى ما قبل إنفصال الجنوب حيث قدم له رئيس حكومة الجنوب سلفا كير دعوة لزيارة جوبا رفض تلبيتها لعدم استجابة الحركة الشعبية لشرطه إعلان انحيازها الرسمي لخيار الوحدة، ومن يومها بدأت العلاقة تتضعضع نحو الضدية. وفرضية الضدية هذه يعززبها اتهام الميرغني لجوبا بأنها تعرقل وتربك مفاوضات أديس الخاصة بتسوية القضايا لاعالقة فى سماء الشقاق بإعلان مواقف مفاجئة مستشهداً بالخريطة الجديدة التى قدمها وفد الجنوب الشهر الماضي وضمت مناطق يري الميرغني أنها فى الاصل مناطق داخل الحدود السودانية حسب خريطة الاول من يناير 1956 المعترف بها اقليمياً ودولياً والمنصوص عليها فى اتفاقية نيفاشا 2005 واصفاً الخطوة بأنها أجندة عدائية تكشف عدم رغبة فى التفاهمات حول حسن الجوار، يذهب الميرغني أبعد من ذلك الخريطة وفد الجنوب بأنها بمثابة إعلان حرب فى حال أخذت على محمل الجد. 3 و بالمقابل حثّ الميرغني المؤتمر الوطني على ضرورة مشاركة كل القوى السياسية سواء المشاركة فى الحكومة او المعارضة في المفاوضات بإعتبار أن القضايا محل التفاوض قضايا قومية ومصيرية لتفادي الاخفاقات التى حدثت مسبقاً بسبب عزل الآخرين. ومن نافلة القول ان كثيراً من قادة الحزب الاتحادي الرافضين للمشاركة يستشهدون بعدم مشاركة الاتحادي فى المفاوضات مع الجنوب للتأكيد على عدم جدوي مشاركة الحزب فى الحكومة وصفرية تأثيرها فضلاً عن عدم لعبه لأيّ دور فى الاجراءات الاقتصادية التى نفذتها الحكومة مؤخراً على الرغم من تبرير قرار المشاركة بالإسهام فى رفع المعاناة عن المواطنين وهى النقطة التى تتسق مع ما قاله الميرغني نفسه فى حواره مع الشرق الاوسط، بأن الاوضاع المعيشية للمواطنين صعبة للغاية وأنهم فى اللقاءت المشتركة مع المؤتمر الوطني طالبوا بأن تكون الاصلاحات الاقتصادية لصالح تخفيف معاناة المواطنين وليس زيادتها بأى حال من الاحوال. على كل، أعلن اليرغني موقفه القاضي بإستمرارية المشاركة متجاهلاً أصوات الرافضين ومعلناً تمسكه ومساندته لشريكه فى أحلك الملفات وبالأخص ملف الجنوب منهياً بذلك سنين العسل المتطاولة مع القادة الجنوبيين إلاّ أنه كدأبه ترك الباب موارباً بإحكام وهو يستخدم لغة الاشارة تجاه المؤتمر الوطني وتنبيهه لمغبة عدم الالتزام بوثيقة الشراكة علي الرغم من موافقته على تقليص حصة حزبه فى الحكومة تماشياً مع إعادة هيكلة الدولة وضرورة ان تكون مشاركة حزبه فاعلة تفضي الى أهدافها المعلنة وبالأخص الاوضاع المعيشية المتردِّية والوصول الى تسوية سلمية مع الجنوب يكون لحزبه فيها دور يسابق ذلك الذى لعبه فى العام 1988 ، وبخلاف ذلك ليس عصياً على الرجل فضّ الحلف بذات الكيفية التى فض بها حلفه مع المعارضة فى توقيت لا يعلمه الاّ هو، ورغماً عن لاءاته الثلاث الجديدة حول المشاركة (لا مغامرة، لا إستخفاف، لا مزايدة). نقلا عن الأهرام اليوم 7/7/2012م