ما من شك أن قرار الدائرة الاستئنافية التابعة لمحكمة الجنايات الدولية الأخير الصادر في يوم الأربعاء 3/2/2010 والذي قضى باعادة أوراق الدعوى ضد الرئيس السوداني المشير البشير الى الدائرة الإبتدائية (لتعيد الأخيرة النظر في قرارها بعدم توجيه تهمة الإبادة الجماعية للبشير)! هو قرار بالغ الغرابة وغير مألوف ولا متعارف عليه ضمن النظم والقواعد القضائية، نقول هذا من وجهة نظر قانونية بحتة كما سيرد في صلب هذا التحليل رغم قناعتنا بأن (الظلال السياسية) للدعوى هي الغالبة ومهيمنة. فقرار الدائرة الاستئنافية – وفقاً للترجمة الرسمية الصحيحة – أعاد الأوراق الى الدائرة الأولى لتقوم هذه الدائرة باعادة النظر في قرارها. كيف؟ باعادة النظر في ما أسمته الدائرة الاستئنافية (المعايير) التي على أساسها يُقال ان هناك تهمة إبادة جماعية أم لا!! ومن المعلوم قانوناً أن محاكم الاستئناف باعتبارها محكمة رقابية تراقب تطبيق المحاكم الأدنى منها للقانون على الوقائع المعروضة أمامها ولا تطلب من ذات المحكمة التي سبق وأن أصدرت قراراً معيناً أن تقوم مرة أخرى باعادة النظر فيه. بمعنى أوضح فإن (اعادة النظر هذه) أوكلها القانون أساساً للمحكمة الاستئنافية والا ما كانت هناك حاجة لهذه المحاكم الاستئنافية، فهي تقرر فيما قررت المحاكم الأدنى قراراً مختلفاً فيه ولكنها لا تأمرها (باعادة النظر في قرار أصدرته بقناعتها وقضت فيه وانتهت)! ولهذا فإن المحكمة الاستئنافية كان من المتعين عليها إما أن تؤيد قرار رفض توجيه التهمة المتعلقة بالابادة الجماعية كما قررته الدائرة الابتدائية، أو أن تلغيه وتتصدى بنفسها للقرار لتصدر قراراً جديداً من عندها بالتهمة بالمعايير التي ترى أن الدائرة الابتدائية لم تعمل بها. ولعل مدار الغرابة هنا وما يمكن أن نسميه (اللف والدوران) في قرار الدائرة الاستئنافية أنها تحدثت عن معايير (مبهمة) وغامضة، فتهمة الإبادة الجماعية لها عناصر محددة في القانون ونكرر عناصر وليس معايير، فإن توفرت هذه العناصر وسندتها أدلة فإن القضاة يصدرون قرارهم بها وان لم تتوفر – وهذا ما حدث بالفعل في الرابع من مارس (آذار) الماضي – فإن القضاة يمتنعون عن اصدار التهمة. فيا ترى ما هو الجديد؟ وما هي المعايير التي لم تأخذها الدائرة الابتدائية في حسبانها؟ لم تشر الدائرة الاستئنافية لذلك وهذا يستخلص منه – ببساطة شديدة – أن الدائرة الاستئنافية (عجزت) عن ايجاد عناصر التهمة المتعلقة بالإبادة الجماعية وبدلاً من أن تقرر ذلك (بشجاعة وبضمير القاضي النزيه) أرادت (تطويل) الاجراءات وجعل السيف مسلطاً على الرئيس البشير لأطول فترة ممكنة لإعاقة الانتخابات أو تهديد فوزه بها لاحقاً أو للإبتزاز مستقبلاً ولا ثاني لهذا الموقف. من السهل أزاء ذلك أن نستيقن أن القضاء الدولي – بهذه المثابة – الذي يعتمد مبدأ (التجريب) المعروف في المسرح ظهر بمظهر غير لائق حين أحاطت به السياسة إحاطة السوار بالمعصم، وسوف نرى في مقبل الأيام أن الدائرة الابتدائية سوف (تضطر) – بحسب الحاجة السياسية طبعاً – لاستصدار قرار (بالمعايير التي طلبت) منها، ويا لها من عدالة!!!