أعادت محكمة الجنايات الدولية ارتكاب خطأها وكررته للمرة الثانية حين اختارت في ظروف السودان الحالية التي يتهيأ فيها لعملية ديمقراطية هي الأولى من نوعها في السودان في كل تاريخه، أن تهدّد أحد رموز سيادة البلاد ممثلاً في رئيس الدولة، وأحد المرشحين الرئاسيين حالياً المشير البشير بالاعتقال وتوجيه تهمة الابادة الجماعية. ففي مثل هذه الظروف – وهذا ما ظل يفوت على فطنة الذين يقفون وراء هذه المحكمة – فإن السودانيين عادة يلتفون حول رئيسهم، ويدعمونه فإن لم يكن لأي هدف سياسي حقيقي فعلى الأقل بدواعي النصرة المجبول عليها المجتمع السوداني في أعرافه وتقاليده الراسخة. ولمن أراد أن يذكر أو يستدعي النموذج فليعد الى أرشيف الاعلام السوداني والفضائيات الدولية عقب صدور مذكرة الاعتقال قبل نحو من عام من الآن أي في الرابع من مارس (آذار) من العام الماضي 2009، فقد كسب البشير جماهيراً بدت كالطوفان، لم تستثني حتى القوى السياسية المعارضة لأن محور الأمر كله ها هنا هو أن هذه العدالة المدعاة إنتقائية، كما أن المساس بسيادة الوطن أمر دونه خرط القتاد بالنسبة للسودانيين. ولهذا فإن اختيار التوقيتات التي اجتهد فيها من اجتهد ممن يجهلون طبائع الامور في السودان هو في الواقع (اختيار معاكس) لمجريات الامور فمن حيث يستهدف هؤلاء توجيه الطلقة في مقتل بزاوية معينة، فإن الشعاع العاكس يجعل الطلقة ترتد في الاتجاه المعاكس. نقول ذلك على الرغم من أن قرار الدائرة الاستئنافية – على غرابته وغموضه ومفارقته للتقاليد القضائية المرعية – يحتمل أن يفشل هو كذلك لأن الدائرة الأولى التي سبق لها وأن قررت عدم وجود اساس لتوجيه تهمة الإبادة الجماعية من المرجح أن تصل لذات النتيجة لأنها توفرت على دراسة القضية – قبل ذلك – لأشهر طوال وما كان لها أن تصل لتلك النتيجة لو أن بالامكان الوصول الى نتيجة مختلفة. بل ان الدائرة الاستئنافية – لو توفر لها من خلال أوراق الدعوى – ما يدعم وجود أساس لتوجيه هذه التهمة لما توانت في توجيهها واصدار قرار من عندها بذلك لأن القانون يمنحها هذا الحق وذلك لأنها محكمة أعلى من المحكمة الأولى ومن يملك الأعلى هو الذي بوسعه اتخاذ ما يشاء من قرارات . وعلى هذا فطالما أن الدائرة الاستئنافية اختارت اعادة الأوراق – بدون قرار جديد مخالف لقرار الدائرة الأولى – فإن الأمر يستشف منه بسهولة شديدة أن القضية أصبحت كرة يتم تعاورها بين الدائرتين الى حين احراز هدف سياسي لجهة سياسية ما لم يحن الوقت لتقرر احراز الهدف. وهذا كله معناه ببساطة أن كل من يعتقد أو يتمنى أن يستخدم ورقة الجنائية في الانتخابات الوشيكة فهو يراهن على حصان خاسر، لأن الامر مربوط بمصالح دول كبرى بعينها ولا علاقة له بعدالة أو أي معنى من معانيها ولهذا قلنا ان الجنائية أخطأت، وأعطت البشير حافزاً شعبياً اضافياً!!