لن نتوقف كثيراً هاهنا حول عنصر التوقيت ودلالاته الواضحة بالنسبة لقرار الدائرة الاستئنافية التابعة لمحكمة الجنايات الدولية الذي أعادت بموجبه أوراق الدعوي الي الدائرة الاولي لتعيد الاخيرة النظر في قرارها السابق بعدم توجيه تهمة الابادة الجماعية للرئيس السوداني المشير البشير. فدلالة التوقيت هنا من الوضوح بحيث لا تحتاج الي بحث وتحميص. غير أننا ننظر الي وجهة أخري مختلفة لمغزي ودلالات القرار نفسه اذ أننا لا نجادل- ومعنا غالب المراقبين- أن الجنايات الدولية تعمل عملاً سياسياً وتلبسه ثوباً قضائياً. هذا لم يعد موضع جدل ولكن حتي في هذه الناحية فان قرارات الجنائية من البؤس والضعف في البناء القانوني بحيث أثارت سخرية الكثيرين من خبراء القانون علي نطاق العالم. فالقرار أعاد الكرة- مرة أخري- الي ملعب الدائرة الأولي، والدائرة الأولي لو كان لديها شئ تفعله ازاء الابادة لما توانت وهذا معناه أنه مطلوب منها (تغيير رايها) باي وسيلة تراها، حيث لا يخفي قرار الدائرة الاستئنافيه طلبه من الدائرة الاولي أن تعمل علي (تضييق) المعايير التي اعتمدتها في المرة الاولي، وأن تعيد تقدير الأدلة المقدمة لديها (تقديراً جديداً مختلفاً) – المهم، بهذه الصورة أو تلك وبأي وسيلة من الوسائل لابد من تهمة ابادة جماعية. الأمر المشين ومؤسف بهذا الصدد أن محكمة الاستئناف اجترحت أمرا غريباً غير مألوف في الاجراءات والتقاليد القضائية، وربما كان الأمر سيكون أقلة أثراً لو أنها قررت من عندها - بأدلة أو بغيرها- اضافة هذه التهمة، أما انها وقد طلبت من الدائرة الأولي اعادة النظر وبما يشبه حتمية توجيه المتهمة المطلوبة فان هذا أمر يزيد طين الخلل القضائي في المحكمة بلاً! من جانب اخر وحتي ولو قمنا بمقايسة القرار بمقاييس سياسية فان اظهار محكمة لكل هذا الحرص علي اعاقة حل أزمة سياسية داخلية في بلد اقترب من حل أزماته يعطي مؤشراً علي أن المقصد هنا يتعدي أي شئ سوي أن المحكمة أداه سياسية تستهدف استقرار البلدان ولا تضع اعتباراً عدلياً ولا حتي تطبق العدالة ولا كيف تطبق! وهكذا فان العديد من المنظمات والاتحادات الاقليمية رفضت وبسرعة القرار، فالاتحاد الافريقي أعرب عن خيبة أمله ازاء قيام المحكمة بعرقلة الجهود السلمية لحل أزمة دارفور في توقيت غريب، وتبعته الجامعة العربية في ذات الاتجاه، ولم يحدث القرار- كما كان مرجواً منه- الأثر المطلوب الذي يعرقل كل الجهود الجارية الان في السودان لحل أزمة دارفور واستكمال بنود اتفاقية السلام، واجراءات الاستحقاق الانتخابي فالحكومة السودانية لم تلتفت للقرار وقالت علي لسان ناطقها الرسمي باسم الخارجية أنها غير معنية أصلاً بالقرار لعدم صلتها بهذه المحكمة ولم يتوقف سير العملية الانتخابية الأمر الذي نستخلص منه في النهاية أن الجنايات الدولية قد أساءت الي نفسها ولم تحز علي احترام أحد!!