انتهت "هيلاري كلينتون" من رحلة بدت في تعبيراتها المختلفة ممتعة، وصالحة لأن تكون آخر أعمالها الكبيرة قبل أن تستقيل من إدارة أوباما "الأولى". هكذا أشاع المحيطون بها بعد أحد عشر يوماً ممتدة من 31 يوليو إلى 10 أغسطس 2012، عبرت بها القارة الأفريقية من أقصى غربها إلى أقصى الشرق والجنوب، لتعقد اجتماعات مثيرة للانتباه والإعلام في تسع عواصم، ومع أكثر من رئيس مثير للجدل أيضاً. وبحيث تستغرق بعض هذه الزيارات بضع ساعات مثل "الرأس الأخضر" لتمتد لأربعة أيام في جنوب أفريقيا. وقد استطاعت السيدة كلينتون أن تشد أنظار الإعلام العالمي بحق في هذه الزيارة، بما سيشكل بالضرورة خدمة جديدة من جانبها للرئيس أوباما المحاصر بالمشاكل في واشنطن. وهي تثبت بذلك، وفي آخر ضرباتها الدبلوماسية، أنها لم تكن "سيدة السياسة الناعمة" أو أداة "القوة الناعمة" التي بشر بها أوباما عند وصوله للبيت الأبيض، بل إنها صارت بخبرة لامعة من موقع المحاماة، أكثر من موقع السيدة الأولى السابقة مصدر تعبير عن "القوة الخشنة" في أفغانستان والعراق والخليج والشمال الأفريقي، وها هي تضرب بالأقدام في فيافي الصحراء، والمتفجرات الأفريقية! لست في حاجة هنا للعودة لتفاصيل ما قد قرأناه عن الزيارة، أو عن الناعم والخشن فيها، فقد يكون القارئ العربي ما زال يعيش تعاسة زيارتها إلى القاهرة وتل أبيب، والرسائل القاسية التي تركتها في المنطقة من مساومات "نظامية" في مصر، إلى طمأنات استقرارية لإسرائيل.. ولكن الطريف هنا هو أنها عبرت بدورها في أقصى الجنوب بعد القاهرة، في كيب تاون، وبطريقة ماكرة عن شعورها بالمرارة، مما واجهته من شباب مصر الذين حرموها من خطاب في مكتبة الإسكندرية، ينافس خطاب أوباما في منتصف 2009 بقاعة جامعة القاهرة، إذ خرج عليها "متمردو" الإسكندرية يحولون بينها وبين دخول القاعة، مما كادت تذكرة لشباب مماثلين مبتسمين في جامعة كيب تاون ضمن حديث عن ذكرياتها مع المتاعب، الشخصية، والعامة! ربما كانت هذه هي الرسالة الأولى العميقة في هذه الرحلة على رغم ما يبدو من بساطتها، وقد قلنا إنها قضت أربعة أيام في تلك البلاد الجميلة، متعددة الوجوه. فهي هنا في أكبر دولة ذات أكبر اقتصاد أفريقي عصري، عضو في تحالف خطر عالمياً وذي مستقبل يضم الصين والبرازيل والهند أيضاً، في فترة تواجه فيها الولاياتالمتحدة أزمة مالية عالمية من جهة، وأزمة الصعود الصيني المخيف من جهة أخرى. ولعلها وجدت في قلق جنوب أفريقيا نفسها من الصين، وقلق السوق المحلي فيها من البضائع الصينية، بل ومواجهة أفريقيا ل"الخط الصيني" المقترب من بترول أنجولا وموزمبيق عضوي "السادك" الحيوية، ما جعل السيدة كلينتون، تعطي جنوب أفريقيا، رئيساً وشعباً، كل هذا الود الذي عبّرت عنه، لطفاً وإشارات... ومن هنا بدا الفرق في درجة الارتياح والأسى، بين جنوب أفريقيا ومصر. وتبدو الوزيرة "كلينتون" دائماً صالحة بالفعل لسياسة "القوة الناعمة"، ويكفيها ما حققته من انطباعات طيبة في مثل هذه الزيارة، والطريقة التي بعثت بها رسائلها الأميركية، حتى وهي تبعث الخشن منها في أوغندا أو جنوب السودان على سبيل المثال. هنا اضطرت أن تبلغ الرئيس "موسيفيني" رسالة مزدوجة عن "ارتياحها" لدوره "التدخلي" العسكري في الصومال، وعدم ارتياحها لاستمراره لربع قرن في الحكم "من دون مؤسسات ديمقراطية"، وقالت حكمتها الشهيرة أصلًا "إن المسألة ليست في رجل قوي، ولكن في المؤسسات القوية". وكعادته كان موسيفيني ساخراً، لأنه يملك رداً تقليدياً بدوره عما فعلته "الديمقراطية" في كينيا مثلاً! وهي التي حذرت الكينيين من مشاكل متوقعة في الانتخابات البرلمانية القريبة عام 2013! ولكن "كلينتون" عالجت ارتباك سياستهم مع أوغندا على الأقل، بنجاح يبدو إعلامياً حتى الآن في السودان. فالرسالة القوية هنا أنها بالقطع سند قوي للحكم المستقل حديثاً في "جوبا"، ولكنها تريد ألا تتضاعف المشاكل في "حوض النيل"، ولابد من إرساء العلاقة هنا في الأساسيات بين "جوبا" والخرطوم، لوقف الصراع حول البترول، ولندع المشاكل الأخرى تدخل ضمن آلية تبعية الصراعات المحلية للسياسة العالمية. فدفعت الطرفين بسرعة لإعلان التوافق واستخراج وتصدير البترول باتفاق مع الرؤساء، حتى قبل ساعات من إعلانها في أديس أبابا عبر المفاوضين، وفق أسلوب "الشوْ" الأميركي المتوقع. وفي غرب أفريقيا، وجدت كلينتون نفسها في نفس هذا الموقف "المرتبك".. إن جاز التعبير -بين النعومة والخشونة. فماذا تفعل مع العملاق النيجيري، وهي تحتاج بتروله كواحد من أكبر مصدريه العشرة في العالم، وتحتاج لقوته العسكرية وهو يملك مؤسسة عسكرية ذات بأس، تمت تجربتها في التدخلات الكبرى في ليبيريا وسيراليون وكوت ديفوار... تحت مظلة "الإيكواس" وبديلًا صورياً للحضور المباشر من قبل القيادة الأميركية "أفريكوم"... وها هي في أشد الحاجة لتدخله الأقوى في "صحراء مالي" بل والغرب الأفريقي كله، لمواجهة متطرفي "الطوارق" و"أنصار الدين" في "تومبكتو"، وهنا يصبح غطاء "إيكواس"، ومخاوف نيجيريا من التطرف الإسلامي مبرراً لجذب "نيجيريا" للتعاون، على رغم خشونة تجربة التعاون مع الأطلسي في ليبيا، وإخراج نيجيريا وجنوب أفريقيا من محاولة التدخل هناك. هنا لوحت "هيلاري" بلطف لمساعدة نيجيريا أمنياً في مواجهة المتطرفين من "بوكوحرام" في نيجيريا و"أنصار الدين" في مالي، في عملية واحدة يمكن أن يكتب لها التوفيق هذه المرة، وخاصة أن سلاح وشبح القذافي وراء كل ذلك وهو الذي كان عنيداً مع نيجيريا في أكثر من موقف، وقد يكون "منتج" "بوكوحرام" نفسه من صنائعه!. ولكن كلينتون جاءت حاملة بشائر الديمقراطية والإصلاح أيضاً، ولا تستطيع أن تتجاهل ذلك ومن ثم تثير شجن النيجيريين، مثل الأوغنديين، بأن القوة وحدها لا تكفي، ولكنها هنا في حاجة لمعالجة ظاهرة الفساد الضارب في سمعة النظام النيجيري. ولذلك كانت دماثتها ظاهرة في زيارة غانا، وحضور جنازة الوداع للرئيس الديمقراطي الراحل "جون آتا ملز"، فرصة لتحية الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي معاً! وهي تحية رقيقة بالفعل لشعب نيكروما وخاصة أن الرئيس الجديد الذي يرث المكان نكرومي الاتجاه تاريخياً، كما أن غانا نموذج لعلاج مساوئ برنامج التكيف الهيكلي سيئ السمعة بما أنجزته من "معدل نمو" يقترب من 7% على رغم كل مشاكل الجماهير الغانية! وبزيارة السنغال، التي كانت أولى خطوات الزيارة في الواقع، عمقت السيدة كلينتون رسالة النظام الأميركي عن الديمقراطية الحديثة، التي أنجزت فيها السنغال مؤخراً ضرباتها البارعة وخاصة أن داكار كانت من أهم زيارات الرئيس كلينتون (الزوج) عام 1995، وبصحبة حرمه وقتها، وقد أعلن خلالها اعتذار الولاياتالمتحدة عن مثالب تجارة الرقيق. وطوال الرحلة، تحدثت كلينتون عن مشروعات أوباما لمساعدة أفريقيا، والبرامج الأميركية عموماً للعون وتنمية التبادل التجاري، والمشاركة في قضايا الأمن والسلام، "واحتياج أفريقيا لإطار العولمة.. مثل احتياج القوى المعولمة إلى تعاون أفريقيا.. إذ ليس هناك حل أفريقي مستقل لكثير من المشاكل العالمية... الخ". لقد ظلت محاولات الوزيرة كلينتون طوال الوقت تواجه مأزقاً مزدوجاً، هو بالطبع مأزق السياسة الأميركية المزدوجة... فهي من جهة تسعى لاستقرار ونفوذ نظام رأسمالي، يعتمد على التبادل التجاري والاستثمار، وحتى استنزاف الثروات من هنا وهنالك وفق الأساليب الرأسمالية والتجارية المعهودة.. وهي في هذا تقوم بمنافسة حادة -لم نغفل عنها بسبب وضوحها الصارخ في القارة بعد أن انتظمت إعلانات الصين واجتماعاتها الصينية/ الأفريقية، والوعود ببلايين الدولارات... ولكن كلينتون تواجه أيضاً الخيارات العسكرية الفجة للبنتاجون في أنحاء آسيا وأفريقيا... إنها هنا أمام من يجرها بعنف لتأمين بترول كينيا والصومال بل وأوغندا، بالحرب في الصومال، وتأمين الصحراء الكبرى بالحرب في مالي، وتأمين إسرائيل في الشرق الأوسط بحروب متعددة الوجوه.. لعل ذلك سبب ما شارع عن قول السيدة الرقيقة الشرسة.. "هذا آخر ظهور لي"! المصدر: الاتحاد 14/8/2012م