الخرطوم وبشكل مذهل ثمة ما يتآكل بداخلها يومياً، ويتسرب ببطء إلي الضفة الأخرى.. (كرش الفيل) تفقد رويداً رويداً الاطمئنان من هول الفجائع وذهول الصدمة، آخرها كان أمس برحيل أحد أعمدة السلام السوداني ومهندسيه عن علم، وهو رئيس الوزراء الإثيوبي ميلس زيناوي، بعد أن باتت مكلومة على فقد (32) من فلدان أكبادها.. بعيداً عن (ولولات) الخرطوم تدثرت أديس أبابا عاصمة السياحة والجمال والابنة الشرعية للحضارة الأكسومية الحزن وشاحاً، بعد أن فقدت أحد أبنائها المحترمين بعد معاناة مع المرض قيل بأنه السرطان.. رحل زيناوي بعد أن عاش مهجساً بالشيخوخة في بلاده، ليس خوفاً من الوحدة والعزلة وإنما لما تعنيه من تبعية، ليناضل الرجل في كنف الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية حتى لا يحدث ما يعكر صفو الإستقلال الإثيوبي الممهور بتجربته الماركسية اللينية.. رحل زيناوي إذا .. تاركاً أديس تؤمن خلفه بالحكمة القائلة بأن (الموت أقل ألماً من الأمراض، لكن وجعه غير مرئي، وكل ما ليس مرئياً يحفر في الخفاء). فحفر فراقه حزناً في ملامحها .. رحل زيناوي تاركاً تركه مثقلة في عقول الكثير من السياسيين لملء الفراغ الذي خلفه، يلهثون في كشف معادلته الخفية بين الزعماء والاحترام .. غادر مليس الحياة تاركاً بصمته في سيناريو الحياة الإثيوبية بلا شك، محدداً معالم الطريق الذي رفض مراراً الخروج عليه، فقد كان مؤمناً بمدنية الدولة وان الحضارة لن تكتمل حتى يسقط آخر حجر في آخر كنسية على رأس آخر قسيس.. توفي زيناوي فجر الثلاثاء بعد رحلة طويلة على دست الحكم، على إثر مرضه الذي تزايد مؤخراً قبل أن يفارق الحياة بأحد مستشفيات الخارج .. وطبقاً لتقارير إعلامية فقد وصفت فترته بالقبضة الحديدية، للدرجة التي حرم فيها قبل قرابة الشهور الثلاثة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في مقدمتها موقع (الاسكايبي) الشهير ومحاكمة من يلقي القبض عليه متلبساً باستخدامه بما يقارب العشر سنوات.. اللحظات الأخيرة:- ونقلت تقارير إعلامية عن بركات سايمن المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية قوله بأن مليس زيناوي توفي قرابة منتصف فجر أمس .. وأضاف (زيناوي بدأ يتعافي جيداً لكن فجأة حصل شيء ماء، ونقل إلي وحدة العناية المكثفة ولم يتكنوا من إنعاشه)، واختفي زيناوي بعد تزايد مرضه الأخيرة عن الظهور علناً منذ يونيو الماضي، وذكر المتحدث الحكومي أن مليس كان يعاني من مشاكل صحية منذ عام، وأضاف لكنه لم يعتبر نفسه مريضاً، وكان مستعداً للعمل كل الوقت وكل الأيام والليالي.. ترتيبات التشييع والحكم:- وربما لأم موت رجالات الدولة يختلف عن موت العوام، فقد سارعت الإدارة الإثيوبية لترتيب وضعها، وكشف الناطق الرسمي للحكومة الإثيوبية عن تسلم نائب زيناوي للحكم مؤقتاً وقال (بموجب الدستور الإثيوبي سيتوجه نائب رئيس الوزراء إلى البرلمان ليؤدي القسم، وان الحكومة تعمل على دعوة البرلمان إلى الانعقاد في أسرع وقت ممكن). وحول ترتيبات التشييع أعلنت الحكومة الإثيوبية أن إجراءات التشييع ستجري وفق خطة أعدتها لجنة تعمل على هذه القضية، موضحاً أن إثيوبيا ستكون في حالة (حداد وطني) حتى تنظيم الجنازة تكريماً لرئيس الوزراء).. وجع الخرطوم:- الخرطوم أيضاً بعد ذهابه، بدت ثقتها المفرطة بالنفس تهتز، وأدركت أنها لم تستنفذ كل أغراضها من بقاء حكمة الرجل وعشقه للخرطوم في مشروع السلام، واستوعبت إن لعبها على وتر الزمن، يعني من جهة أخرى أنها تدفع ثمن عبثها مع الأقدار بسخرية، التي لا تنسي فأخذت كل شيء بجدية وفاجأتها في أقل اللحظات انتظاراً وانتصاراً.. الأجهزة الرسمية السودانية تحررت سريعاً من هول الصدمة فكشفت رئاسة الجمهورية عبر ينان لها عن حزن الرئيس البشير وهو يقدم أحر تعازيه ومواساته للحكومة والشعب الإثيوبي ووصف البيان الرئاسي ملس بالقائد الإفريقي الشجاع والمناضل والحكيم، واعتبرته الرئاسة السودانية سياسياً متميزاً قاد شعبه بحنكة ودراية للنماء والتطور، واعتبرت رئاسة الجمهورية مواقف زيناوي تجاه الخرطوم مشهودة وإيجابية، وانه ظل مهموماً بشأنه وحريصاً على الدوام بالمشاركة في ما يواجهه من تحديات وأضاف البيان (ظل زيناوي على صلة مستديمة وحميمة بالقيادة السودانية ومبادراً في تأكيد قدرة الإتحاد الإفريقي والقوات الإفريقية في تعزيز السلام في السودان وكان أول زعيم أفريقي يسهم بقواته في اليوناميد بدارفور ومؤخراً في أبيي) .. رئاسة الجمهورية لم تكابر وهي تعلن افتقادها للرجل باعتباره صديقاً وحكيماً وهميماً بسلام السودان واستقراره وتنميته لما يربط الجارتين من علاقات تاريخية والية، قبل أن تكشف بأن الفقيد كان المبادر في استضافة المفاوضات الجارية بين السودان ودولة جنوب السودان حالياً.. الألم في الخرطوم لم يكن حكراً على القصر الرئاسي وقيادات الرئاسة السودانية، وشاطرتها الخارجية الحدث الجلل، معبرة برصانة الدبلوماسيين في بيان تسلمت الرأي العام نسخة منه – عن بالغ حزنها بنبأ وفاة رئيس وزراء إثيوبيا، وذكر بيان الخارجية السودانية ارتباط الراحل بعلاقات صادقة حميمة مع السودان، مؤكدة توسع مجالات التعاون المشترك في عهده لتشمل جميع المجالات .. الخارجية لم تنس جهود الرجل التي وصفتها بالمؤثرة في دعم جهود السلام والاستقرار فيه، وصلت درجة المشاركة بجنودها ضمن مجموعات حفظ السلام الدولية، واستضافة بلاده جولات التفاوض مع دولة جنوب السودان والتي استمرت لأكثر من عام. واعتبرت الخارجية أنه برحيل مليس زيناوي فقد السودان صديقاً عزيزاً، وفقد الإقليم والقارة الإفريقية برحيله زعيماً مميزاً وقائداً حكيماً، اثبت حنكته في التعاطي مع قضاياها وفي القضايا الدولية. ملف السودان بعد زيناوي:- جهود الرجل وإسهاماته التي أكدتها الرئاسة والخارجية، لم تخف على الشارع العام، بيد أن وفاة الرجل فجرت العديد من الأسئلة حيال ما إذا كان مشروع الألف ميل في السلام السوداني سيتواصل أم ان التحديات المحدقة ستجد فرصتها في الغياب الذي خلقه الرجل، في ظل منافسة إقليمية مستترة لدول تسعي للعب أدوار على حساب الملفات السودانية بالإشراف عليها واقتلاعها من أديس أبابا؟! مراقبون يراهنون على أن الدور الإثيوبي سيتمر في الملف السوداني، بل وبمستوي أكبر مما كان عليه في عهد زيناوي. ويذهبون إلي أن إثيوبيا دولة مؤسسات وما قام به رئيس الوزراء الراحل لم يكن مرتبطاً بشخصه بقدر ما أنه يرتبط باستراتيجيات أديس أبابا بالمنطقة، وأكد المتخصص في العلاقات الدولية والمحلل السياسي د. مهدي دهب على أن الدور الإثيوبي في الملف السوداني سيشهد حراكاً أكبر بعد وفاة زيناوي. وقال ل(الرأي العام): (زيناوي ظل لفترة طويلة ممسكاً بالملف ومشرفاً عليه سواء عبر مبادراته كرئيس وزراء دولة جارة تتضرر بما يتضرر منه السودان، أو باعتباره عضواً في الاتحاد الأفريقي أو باعتباره رئيساً للإيقاد أو باعتباره منصوصاً عليه في القرار (2046) بالاسم كمتابع ومشرف لملف السلام السوداني، وطول المدة يتسبب عادة في حالة من التكاسل أو التراخي، ما يجعل القادم الجديد لمنصب رئيس الوزراء مدفوعاً بحماس البدايات ووضع بصمته الخاصة في تحقيق اختراق في الملف خلال فترة وجيزة). نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 22/8/2012م