مهما قيل عن شخصنة القوة التى مثلها الراحل "ميلس زيناوى" كرئيس فعلي لإثيوبيا منذ 1990، فإن هذا ما لا يمكن التركيز على شرحه هنا، لأن الواقع الأفريقي قد تعامل مع إثيوبيا "كقوة إقليمية" بقدر ما منح الرجل من تقدير، لا أظن أنه انفرد به مثل حالات كاريزمية أخرى كثيرة. كان ثمة اعتبار دائم لإثيوبيا في ذاتها، كإمبراطورية تاريخية، حكمها رجل قادر على التوازن الداخلي مثل الإمبراطور هيلا سيلاسي، وجعل منها مقراً لمنظمة الوحدة الأفريقية، باختيار مقبول من شخصيات متمردة سياسياً واجتماعياً مثل ناصر ونكروما وسيكوتوري. ثم جاء اعتبار التوازن "الدولي" على يد "منجستو هيلاماريام" العسكري الذي استطاع مكايدة الولاياتالمتحدة بدعم سوفييتي وكوبي غير محدود، جعله يمد قوته في الصومال ونصرة جنوب السودان دون أن يتعرض للعدوان المباشر، حتى جاءته الضربة عام 1990 من قيادات شابة "للحركة الشعبية لتحرير تيجرينيا" بزعامة "ميلس زيناوي" زاحفة من الشمال للعاصمة ممثلاً "لأحد" الأقاليم، وليس بزعم تمثيل كل الشعب الإثيوبي، وإذ به يملك "الكاريزما" التي تجعله في بضع سنوات زعيماً لتكتل فيدرالي" هو "إثيوبيا" الحديثة وليس "الإمبراطورية" القديمة. "زيناوي" الذي مثل في السنوات الأخيرة نموذج "الديكتاتورية الناعمة"، في واحدة من أكبر الدول الأفريقية (حوالى 90 مليون نسمة)، وبعد انتخابات 2005 التي بدت "مزيفة" وفق كثير من التحقيقات، وإذ بها ساحة للتحالف الوطني"، استطاع أن يحقق من خلالها مجموعة ائتلافات سياسية، ضمنت له رغم ذلك أفضل ظروف الاستقرار. وقد عكست "الائتلافات السياسية" هندسة سياسية نادرة على المستوى الأفريقي، تركز "السياسة العامة" في تنظيمات (أحزاب) سبعة مركزية بالعاصمة بينما تشتت تنظيمات محلية (تبدو شعبية) تزيد على الخمسين، في الأقاليم التسعة الكبير منها والصغير إلى جانب العاصمة. وقد انطلقت هذه الهندسة المبكرة عند "زيناوي" منذ صاغ دستور 1995 على نفس الأساس، ليبدو أكثر الدساتير ديمقراطية، واستبداداً في نفس الوقت! بحيث يوزع كثير من السلطات للمحليات ويضمن لأى إقليم استقلاله الذاتي، دون قدرة على تحقيقه، مع سيطرة التحالفات الحزبية الذكية التي "هندسها" بدورها، عبر تحويل مسؤولية "الضبط" إلى "اللجان الشعبية" الأقرب للتنظيم الكنسي الموروث تاريخياً، والمحدث على يد "منجستو" الموالي للنمط السوفييتي، ثم الجبهة الشعبية "التجرينية" ذات الأصول الفكرية "الماوية"! بهذه الهندسة جعل "زيناوي" نخبة "التجرينية" الممثلة لحوالى أربعة ملايين نسمة تحكم قوميات بحجم الأمهرة (17مليون) و الأورومو(27 مليون) والصوماليين في شرق إثيوبيا (4 ملايين) والقوميات الأخرى في الجنوب وغرب البلاد بأرقام متواضعة أخرى. لم تكن أديس أبابا معروفة بإنجاز "تنمية مستدامة" في عقودها السابقة، وكنا جميعاً- ومازلنا ندهش من مظاهر الفقر المدقع التي يعبر عنها حجم العاطلين والمهمشين في العاصمة وخارجها. لكن الراحل "زيناوي" تمثل الوصفة النموذجية لصندوق النقد الدولي، والعولمة الرأسمالية، مع رفعة اسم بلاده اقتصادياً وسياسياً! وهذه من روائع تلك الوصفة!.. ذلك أن إثيوبيا أصبحت من بلاد تسجل "معدل نمو" يصل لرقم عشرة بالمائة تقريباً، وتوضع بين الدول المرشحة لتكون بين العشرين الأول اقتصادياً على مستوى عالمي، ويلهث وراء حكومتها وفود من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، باستثمارات متتالية من الصين والهند وتركيا وإيطاليا وفرنسا والخليج ناهيك عن الإدارة الأميركية لتسويق إثيوبيا عالمياً في كافة الوجوه. كل ذلك دون علاقة حقيقية بين الواقع الاجتماعي والترتيبات الاقتصادية بشروط الصندوق. وقد أدرك "ميلس زيناوي" بشخصيته الكاريزمية، وعمق تجربة إثيوبيا العالمية منذ "منليك" و"هيلاسيلاسي" كيف يدير معركة الواقع التقليدي الإثيوبي مع "الحداثة" المتسارعة، حداثة التوجه والتفكير مع "التوازن" المحلي" "للفيدرالية" الذي أنجزه، وكانت هذه بطاقة دخول العولمة من أوسع أبوابها لتحميه رؤوس أموال هائلة يعرف هو أنها تتجه حديثاً لإنتاج الطاقة والكهرباء وإدارة المياه، والزراعات العضوية للسوق العالمي وليس المحلي. فهي روشتة الرأسمالية العالمية الحديثة التي تسري على أرض المتقدمين والمتخلفين على السواء! وهذا هو ما يحكم مشروعات إثيوبيا الكبرى، كدولة صاحبة "مشروع النهضة" بما يكاد يكون على الطريقة اليابانية وليس الصينية، كما يوحي به البعض... ليلمزوا موروث الجبهة الشعبية للتحرير التجرينية "التي زحفت إلى أديس أبابا بفكر "ماوي" عام 1990. وبدخول عقلية نفاذه مثل "زيناوي" إلى الساحة العالمية على هذا النحو، أصبح هو "القوة الإقليمية" الضاربة في الشرق الأفريقي والقرن الأفريقي على السواء، وجعل من نفسه وإثيوبيا ضرورة" ليلجم" طموح "إريتريا" بحرب ضروس 1998/2000 كًلفته كثيراً ، لكنها منحته كثيراً حيث أصبح رقماً في موازنة جنوب السودان مع شماله، ولجم التيارات الإسلامية في الصومال، وبروزه بين "القادة" الشبان" مع أوغندا، ورواندا، وبورندى، والكونغو. وقد وثق الغرب به وبمستقبل الطبقة الوسطى في إثيوبيا بأكثر مما يثق بالكثيرين في المنطقة؛ لأنه- بإثيوبيا التاريخية- لا يعتمد على الابتزاز وإنما على تنسيق المصالح المركزة في يده رغم أن خططه الداخلية لا تعطي ما تعطيه خططه مع الخارج. ذلك أن قواته التى مازالت على حدود إريتريا مخالفة القرارات الدولية بالانسحاب، ومازالت في الصومال بأكبر مما تعطيها الاتفاقات، وهي القابعة على الحدود بين شمال السودان وجنوبه دون إنجاز سلام حقيقي هناك ... كل ذلك يمثل أقوى مظاهر القوة الإقليمية، مثلما تمثل مليارات الاستثمارات، وجهاً عالميا لإثيوبيا دون تحقيق العائد المادي الجماهيرى المنتظر. والآن... رحل الفارس، والمرشح المباشر ليخلفه – وفق الدستور- نائبه القادم من أقاليم الجنوب التي لا تذكر لها قوة مرجعية مثل "أمهرة" هيلاسلاسي أو "تجرينيي" حرب التحرير... والانتخابات التالية في عام 2015. فكيف سيتم "الانتقال" الديمقراطي طوال ثلاث سنوات قادمة؟ أطراف كثيرة يصيبها القلق الآن في الصومال والسودان ومصر، فالنظام الإقليمي "للفيدرالية" الإثيوبية، يجعل الصوماليين فيها يتساءلون عن إمكان لحاقهم "بالدولة الصومالية"، التي يجرى ترتيبها، و"الأورومو"يبحثون عن مواقع لقدمهم بعد طول تجاهل، والسودان شماله وجنوبه يضع عينه على أديس أبابا ودورها كمركز للتفاوض الدائم، وفق سياسات دولية لا يدري كيف ستنظم بعد رحيل الزعيم، ومصر قلقة من احتمالات "التشدد" للفريق الجديد في السلطة، بديلا "لدماثه" الزعيم الراحل النسبية...وموازناته الدبلوماسية. الموقف الداخلي الملغوم منذ انتخابات 2005، والمعارضة الكامنة في قوى الشباب والشارع الذى جرب التمرد وضرب عقب تلك الانتخابات، يمكن أن تتاح أمامهم مشاهد جديدة...إما لدمقرطة أفضل ولو لإثيوبيا عادية، أو لتشدد أكثر بتأثير "الكاريزما" الراحلة من باب المنافسة أو التقليد، ولا توحي تجربة معظم الدول في السنوات الأخيرة.. وفي إطار العولمة بالتفاؤل... المصدر: الاتحاد الاماراتية 28/8/2012م