قال المحامي البريطاني (جيفري نايس) إن مدّعي محكمة الجنايات الدولية السابق (لويس مورينو أوكامبو) لم يراعِ فى الاجراءات والتحقيقات التى قام بها بشأن مزاعم ارتكاب جرائم حرب فى دارفور ما وصفها ب(التمثيل العادل للأدلة) الأمر الذى جعل من مزاعمه بوقوع إبادة جماعية مثير للجدل؛ ورفض (نايس) فى برنامج حواري ساخن أجرته معه قناة (بي بي سي) البريطانية مزاعم الابادة الجماعية التى أُتهِمَ بها الرئيس السوداني المشير البشير فى دارفور، واصفاً إياها بأنها لا تعدو كونها (مجرد ضغوط من مجموعات سياسية أمريكية). وتساءل المحامي البريطاني عن السر وراء تحرك المجتمع الدولي ومسارعته للتدخل فى الصراع فى السودان فى حين أنه كان لا تحرك فى العادة حيال الصراعات التى تقع فى أفريقيا إلا بعد إنتهاء الصراع؟ وأبدي إستغرابه الشديد جراء عدم توقيع الولاياتالمتحدة وروسيا وبعض الدول الكبري الاخري على ميثاق روما المنشئ للمحكمة، وفى الوقت نفسه سعت لإدخال السودان فى إختصاص المحكمة رغم عدم توقعيه ومصادقته هو أيضاً عليها! وخَلُصَ المحامي البريطاني فى حديثه للقناة الى أن مدعي عام المحكمة السابق لم يتحلَّ بالقدر الكافي من أسس العدالة وكانت النتيجة أنه أثار إنتقادات قانونية واسعة النطاق كادت أن تقضي على التجربة القضائية الدولية الوليدة. وما من شك ان ما قاله المحامي البريطاني بمثابة نقد أمين وشهادة مهنية واضحة خالية من الغرض، فهو محامي بريطاني الجنسية ومن ثم لا مصلحة له فى الدفاع عن هذا الطرف أو ذاك. وهو أيضاً ليس محامياً مفوضاً من السودان حتى يُقال ان الرجل يمارس مهمته، والأهمّ من ذلك فهو صوّب نقده الى نقاط مهمة للغاية تمس صميم العمل العدلي نتناول جزءاً منها فيما يلي بغرض التحليل والمدارسة. ففيما يختص بالاجراءات والتحقيقات التى قام بها أوكامبو قال المحامي (جيفري) إنها لم تنتهج مبدأ التمثيل العادل للأدلة؛ وهذا المبدأ من أهم مبادئ عمل المحققين فى النيابات العامة أو الهيئات القضائية، إذ ليس مهمة المحقق أن يبحث فقط فى ما يعتقد أنها أدلة تدين المشتبه به، وإنما عليه ان يجمع أدلة الإدانة جنباً الى جنب مع أدلة البراءة، بحيث لا يسقط أدلة البراءة من حساباته وألاّ يتصرف على نحو عدائي (Hostile)، ويجعل كل تحقيقه ملاحقة المشتبه به بما يعطي إنطباعاً أنه هو شخصياً –أى المحقق– صاحب مصلحة. فالمحقق ليس خصماً للمتهم وحتى ولو فرض أنه خصم فهو (خصم شريف) وبالتالي عليه - لدواعي الامانة المهنية - أن يتيح الفرصة لأدلة متوازنة تاركاً مُهمّة الترجيح والوزن لهذه الأدلة للسلطة القضائية المختصة. ولعل هذه النقطة وحدها - مع وجود عشرات النقاط الاخري - هى الأكثر خطورة فى كل ما قام به أوكامبو من إجراءات. جمع أدلة بوسائل ترهيب وترغيب سرية وغير معروفة. تعامل فى أحيان كثيرة مع معلومات استخبارية يستحيل على رجل قانون يحترم نفسه ان يركن اليها مهما كانت درجة تواطؤه لأنّ كل ذلك سوف يظهر على الملأ لاحقاً ويجعله موضع إنتقاد مهني ويقدح فى سيرته المهنية وهو ما نعتقد أن أوكامبو لم يكترث له مطلقاً. الأمر الثاني ان المحامي (جيفري) أشار الى نقطة بالغة الحساسية أيضاً فيما يختص بالسر وراء تدخل المجتمع الدولي فى خضم الصراع السوداني بهذه الطريقة، وهى قصة طويلة معقدة ولكننا نختصرها فى أن الصراع السوداني فى دارفور هو أصلاً صراع مصنوع، جري تخليقه بعناية لأهداف مقصودة، ولهذا كان من الطبيعي أن تتم الاستفادة منه على هذا النحو بحيث تُستخدم الأداة العدلية فى عمل سياسي استخباري بغية تكثيف الضغط على السودان. والأمر لا يحتاج لشرح أوسع، فهو ينطق بما فيه. وهكذا يمكننا القول - فقط من خلال النقطتين اللتين أشار اليهما المحامي البريطاني الجنسية (جيفري نايس) - إنَّ تجربة مدعي عام محكمة الجنايات الدولية السابق كانت وما تزال موضع إنتقادات حادة من رجال قانون لكونها أخطر تجربة تمرّ على التاريخ القضائي الدولي فى عصورنا الحديث بإستهدافها لمسئولين كبار وتركيزها على دول القارة الافريقية. والأسوأ من كل ذلك استخدامها كورقة ضغط سياسية لملاحقة الرؤساء والمسئولين الذين لا يستجيبون لرغبات القوى الدولية، ولهذا فإننا نتوقع ان تتسع دائرة النقد فى كل يوم بذات هذه الدرجة الى حين إضطرار الدول الموقعة على ميثاق المحكمة لإلغائها، أو البحث عن وسيلة جديدة لانشاء محكمة بمواصفات مختلفة تتجاوز فيها الأخطاء الجسيمة للمحكمة الحالية.