تقول الحكومة السودانية إن هناك فرقاً جوهرياً ما بين إبدائها المرونة فى عملية التفاوض فى أديس أبابا، وما بين تقديمها لتنازلات فى القضايا الخلافية المطروحة. ويشير الناطق بإسم الحزب الوطني الحاكم بروفسير بدر الدين أحمد ابراهيم الى أنَّ المرونة لا تعني تقديم التنازلات أو التخلي عن شبر واحد من أرض السودان لدولة جنوب السودان. الواقع ان قضية التفاوض فى مجملها تعتبر عملية معقدة تتداخل فيها المرونة مع التنازلات, واذا أردنا الإنصاف فإن المرونة فى جزء مُهمّ منها هى دون شك المدخل الرئيس للتنازلات، إذ على سبيل المثال، حين طرحت قضية الخارطة الافريقية والميل 14 فإن مقتضيات المرونة جعلت الوفد الحكومي المفاوض، يراجع المركز هنا فى الخرطوم ويعود رئيسه الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين من مقر المفاوضات ليلتقِي بالقيادة السياسة العليا فى الخرطوم ممثلة فى الرئيس البشير ونائبه الاول علي عثمان، ثم يعود مرة أخري الى مقر المفاوضات. ربما كانت هذه مرونة بدرجة ما، فتحت فيها الخرطوم كوّة لكي تعقد تشاوراً واسع النطاق، ولكي تعطي إمكانية لظهور مقترحات معقولة تعين على تجاوز العقبة التى برزت فى المفاوضات. غير أن ذات هذه المرونة وعلى الرغم من أنها تجسد رغبة جادة فى الحل من جانب الوفد السوداني، لاقت تفسيراً مغايراً من الجانب الآخر بحيث تم فهمها فى إطار إستعداد لتقديم تنازلات. ذلك أن رفض السودان للخارطة الافريقية إنما هو رفض للمناطق التى جري ضمها – وفق الخريطة – الى دولة جنوب السودان وتحديداً الميل 14. الرفض السوداني بالنظر الى القواعد المتبعة عادة فى أىّ مفاوضات هو رفض مبدئي فحواه أن هناك منطقة جري حسم النزاع بشأنها لصالح طرف بدون تفاوض، ومن ثم لا مجال والحال كهذه للبحث عن مقترحات. أىِّ مقترحات فى هذا الصدد يمكن أن تُفسَر بأنها إستعداد لقبول (حلول وسطي) والحلول الوسطي فى مثل هذه الحالات تعد فى حد ذاتها تنازلاً لأنّ الإفتراض هو عدم القبول مطلقاً بأقل من إعادة المنطقة الى السودان أولاً، والإقرار بتبعيتها مبدئياً له، ثم بعد ذلك بإمكان الأطراف التفاوض حول ملكيتها فالوضع بهذه المثابة مقلوب تماماً إذ أنَّ الصحيح أن تُرَد المنطقة للسودان وتعتبر حتى هذه اللحظة مملوكة له، وعلى الطرف المنازع فيها أن يتفاوض ليقدم أسانيده القانونية. من جانب ثاني، فإن المرونة أيضاً ما ينبغي ان تصل درجة التفكير الجدّي فى إجراء صفقات أو مقايضات. صحيح أن أيّة مفاوضات مهما كانت مهارة هذا الطرف أو ذاك لا تعطي الأطراف كل ما يتطلعون اليه. هذا صحيح ولذلك أطلق عليها مفاوضات، فهي فى مرحلة من مراحلها ربما تفضي الى تسوية أو تصالُح على نقطة ما ؛ ولكن رغماً عن ذلك فإن إبداء المرونة قد يفرغ الموقف التفاوضيّ للطرف السوداني من مضمونه كاملاً. إذ على سبيل المثال فإن القبول باللجوء الى التحكيم الدولي بشأن النزاع الحدودي يمكن أن يكون عادياً ومعقولاً إذا أُعيدت الأمور الى ما كانت عليه ونظّف الطرف الجنوبي يده تماماً وجاء الى التحكيم بأيدي نظيفة، وفى الوقت ذاته جري إنشاء المنطقة العازلة إستناداً على الحدود الدولية المعروفة (حدود 1956) كما هي، بلا زيادة أو نقصان. اذا جرت الأمور على ذلك فهذه هى مقتضيات وحدود المرونة المطلوبة التى لا تصل الى حد تقديم التنازلات. أما إذا تم القبول بإنشاء المنطقة العازلة كهذا بالاستناد الى (خريطة الأمر الواقع) التى يحملها الوسيط الافريقي فإن أىّ حديث بعد ذلك عن تحكيم أو تسوية للنزاع الحدودي يصبح مضعية للوقت.