فى غمرة مواجهتها اليائسة لتداعيات الفيلم الميسئ للرسول (ص) وما نجم عنها من تظاهرات غاضبة دفعت ثمنها بعثاتها الدبلوماسية فى بعض العواصم مثل طرابلس والقاهرة والخرطوم، طلبت الادارة الامريكية من الحكومة السودانية السماح لها بإستجلاب قوات خاصة من مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) لحماية بعثتها الدبلوماسية فى السودان. الرد السوداني على الطلب الأمريكي كان أسرع مما تصوّرته واشنطن ومغايراً تماماً لما كانت تتوقعه، حيث جاء الرفض سريعاً ورافضاً بقوة. ربما إعتقدت واشنطن - بحسابات سريعة مضطربة الأعصاب - أن الرغبة السودانية المتصلة لتحسين علاقاتها معها سوف تتكفل بالاستجابة للطلب، أو أن حاجة الخرطوم الماثلة –فى الوقت الراهن بالذات– لطيّ صفحة خلافاتها مع جوبا فيما يخص القضايا الخلافية العالقة تقتضي ان تقدم (قرباناً) بسيطاً كهذا لواشنطن عسي ولعل! الخيال السياسي فى ذهن صانع القرار فى واشنطن فى الغالب لا يخلو من سطحية خاصة حين يتعلق الأمر بدولة من الدول التى تُصنَّف عادة على أنها من دول العالم الثالث. ولهذا كانت الصدمة صدمتان بالنسبة لواشنطن؛ صدمة جراء موجة الغضب العارمة التى هتكت هيبتها فى الخرطوم وهى تري مواطنين بسطاء يقتحمون أسوار سفارتها ويدوسون على قداستها السياسية كقوة عظمي مهابة؛ وصدمة فى رفض طلبها الذى كانت تأمل أن يحفظ لها ولو قدراً يسيراً من ما تبقي من ماء وجهها المراق! ولم تجد واشنطن وهى فى صدمتها هذه ما تفكر فيه سوي ان تلوِّح – يائسة – بنقل بعثتها الى عاصمة افريقية مجاورة. وسواء كان التلويح جدياً أو كان مجرد تهويش عُرِف عنها بغرض قياس رد الفعل السوداني، فإن واشنطن على أية حال إرتكبت سلسلة من الأخطاء التى كان لزاماً أن تترتب على مسلكها الخاطئ منذ البداية، حين إستهانت بالفيلم وأخطأت فى تقدير ما قد يسفر عن نتائج عرضه من رود فعل مدمرة. ولعل الخطأ البارز فى هذا الصدد إستغلالها للحدث إستغلالاً إنتهازياً بائراً على شاكلة إستغلالها لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م. فهي تريد ان تنشئ (ثكنة) عسكرية مصغرة داخل العاصمة السودانية ليس مجاناً فقط، ولكن أيضاً بقبول حار من الحكومة السودانية وربما فى سياق ما ظلت تتلقاه فى السابق من تعاون سوداني فى مجال مكافحة الارهاب. ذهن الادارة الامريكية بدا وكأنّه ما يزال مجمداً فى تلك الحقبة التى إنقضت حين أخلص السودان فى التعاون معها فى مكافحة الارهاب وكان نصيبه منها، الإصرار حتى الآن على وضعه على قائمة الدول الداعمة للإرهاب! الخطأ الثاني أن واشنطن اعتقدت ان الخرطوم يمكن ان تتحول - بطوعها - الى قاعدة أمريكية متقدمة تستطيع بها واشنطن ان تكافحها هى نفسها بها! فالسودان فى المخيلة الامريكية ما يزال تلك الدولة الغارقة فى السذاجة وحسن النية، والباحثة عن تطبيع بأىّ ثمن مع واشنطن. الخطأ الثالث ان واشنطن أرادت إدانة السودان فى الواقع -بأدلة ملموسة صادرة عنه- بأنه غير قادر على حماية البعثات الدبلوماسية المعتمدة لديه، وهذه نقطة من المؤكد أن لها تبعاتها عاجلاً أم آجلاً ويمكنها تأسيساً على ذلك أن تمدّ رجليها الى أىّ مدي تراه فى النطاق السوداني طالما أنها موجودة بموافقة رسمية! لا شك ان واشنطن بالغت جداً في تصوراتها، وكل ذلك جراء إستهانة بالغة الغرابة ظلت تتعامل بها مع السودان بوعي منها أو بغير وعي.