{ بطبيعة الحال لا يقتصر دور السفارات والبعثات الدبلوماسية على أدب العلاقات العامة وتشريف مراسم الاحتفالات في البلدان التي تُقيم فيها، بل ربما كان الهم الأكبر يتمحور حول مصالح الدول، ولنقترب أكثر من موضوعنا، فربما كانت سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية بالخرطوم في هذه الأيام لا تعرف النوم والراحة، لكونه مطلوب منها أن توفر «معلومات يومية» طازجة لمطبخ «صناعة القرار» بالبيت الأبيض بواشنطن، وبرغم أن لواشنطن بالخرطوم أكثر من مصدر للمعلومات والأبحاث والتقصّي، ويُذكر في هذا السياق مبعوثها الخاص للسودان السيد غرايشن، وأصدقاؤها واستخباراتها، إلا أن كل ذلك لا يلغي دور السفارة الذي هو أكثر عمقاً وشمولية، لهذا وذاك ولصالح العلاقات والمصالح المشتركة بين البلدين، برغم تقاطعاتها وتبايناتها، رأيت أن أقدم هنا بعض المعلومات المجانية الفطيرة لسفارة البيت الأبيض بالخرطوم، وذلك لما يترتب على هذه المعلومات من أحداث باهظة ربما تطيح بمصالح الامبراطورية الأمريكية بالسودان وبالمنطقة كلها، سيما وأن الأمر يرتبط بما تُطلق عليه واشنطن في الفترة الأخيرة ب«الحرب على الارهاب» لطالما جيّشت واشنطن الجيوش عبر القارات والمحيطات لهذا الغرض، ولا نظن أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ينقصها فتح المزيد من الجبهات، المعركة المفتوحة منذ سبع سنوات بين الامبراطورية الأمريكية وامبراطورية أسامة بن لادن، رجل ضد دولة ودولة ضد رجل، المعركة التي اتخذت من أفغانستان في بادئ الأمر مسرحاً لها، ثم لم تلبث أن تشعّبت وتعددت مسارحها وآلياتها ومسوِّغاتها، والآن نحن نعيش مرحلة «الطرود المفخخة»، آخر أشكال الرسائل المتبادلة بين القاعدة وواشنطن. { رأيت أن أقول لسفارة خادم البيت الأبيض بالخرطوم، إذا ذهبت واشنطن أكثر في طريق «تغذية الصراع السوداني.. السوداني» ستضيف في نهاية الأمر أكثر من «دولة فاشلة» لهذا القرن الإفريقي، وتجربة «المجاهدين الشباب» الناجحة في دولة الصومال الفاشلة ليست ببعيدة عن الأذهان. فأكثر ما يُرهق الامبراطورية الأمريكية هي الدول الفاشلة، وبين يدينا نماذج أفغانستان والعراق والصومال، والمدهش إن واشنطن هي التي تجعل من بعض الدول «دولاً فاشلة» ثم هي ذاتها التي تدفع الثمن في نهاية الأمر، فإذا ما ذهبت واشنطن في طريق إضافة «دولة السودان» إلى منظومة الدول الفاشلة، فعلى الأقل أن هنالك تسع دول تحيط بالسودان ستكون مسرحاً كبيراً لتنظيم القاعدة، ويُذكر في هذا السياق، وفي لقاء عبر قناة الجزيرة سُئل الرئيس المالي عن الأنشطة المتزايدة للقاعدة في بلاده، فقال الرجل ليس بإمكاننا محاصرة تنظيم يبيت أفراده في دولة ثم يصبحون في دولة أخرى، فتصوروا كيف سيكون حال واشنطن هي أضافت عشر دول أخرى إلى هذا المسرح الكبير، سيما وأن من بين هذه الدولة المرشحة «دولة مصر» المصدر الأول للعمل الحركي الإسلامي، و«دولة السودان» المصدر الأخطر لاتساع رقعتها ووعورة تضاريسها وهي يومئذ معبر خطير بين جزيرة العرب ومجاهل إفريقيا السمراء. { والمعلومات التي أقدمها بين يدي مقالي هذا لواشنطن في هذا الصدد هي، أن السودان يحفل بتيار سلفي واسع ومتنامٍ خاصة في الجامعات والمعاهد العليا وبين أوساط الشباب، وهي الشريحة القادرة على حمل «أعباء الدعوة»، لم تقتصر أنشطة التيار السلفي السوداني على وسائل منابر المساجد التي بلغت المئات، ولا عبر منابر الجامعات، بل قد امتلك هذا التيار المدعوم من الدولة الإذاعات والفضائيات. صحيح أن هذا التيار العريض حتى هذه اللحظة ينتهج الحسنى والحوار والمعايشة مع الآخرين برنامجاً له، ولن يبلغ مرحلة «الدعوة بالسيف» بعد، وأمر هذه النقلة الكبرى بيد واشنطن، فإذا ما استبيحت هذه الدولة أو تعرضت إلى تحريض مضاد، فإن هذا «التنظيم النايم» سيستيقظ لا محالة وسيتحول هذا القرن الإفريقي يومئذ إلى «قرن فاشل»، قرن بأكمله. { وواشنطن في معظم الأحيان وبفعل بعض الحمقى من اللوبيات هي التي تصنع المزيد من الأعداء، فسبعة أعوام مضت دون أن تنتصر الولاياتالمتحدةالأمريكية على أسامة بن لادن، بل أن مئات الألوف من ابن لادن سينهضون هنا إن لم تتعقّل واشنطن وتستفيد من تجاربها.