لكي تكتمل الصورة وتبدو واضحة بكافة ألوانها بشأن الطريقة التي تتعامل بها محكمة الجنايات الدولية فاننا يمكن أن ننظر في اتجاهين كليهما يقودان الي نتيجة واحدة. الاتجاه الأول هو أن الدائرة الاستئنافية للمحكمة ما تخيّرت وقتاً- من دون الاوقات الممتدة المتاحة- لكي تصدر قرارها بشأن الابادة الجماعية في مواجهة الرئيس السوداني الا هذا الوقت الذي يستعد فيه الناخبون للتوجه لصناديق الاقتراع، وتجري فيه عملية المفاوضات في الدوحة لاحلال السلام في دارفور، فالقرار هنا مطلوب منه (ضرب الأمرين بحجر واحد)!! الاتجاه الثاني هو أن الدائرة الاولي بالمحكمة ما تخيرت وقتاً أيضاً من دون كل الأوقات المتاحة- لتعلن (ببراءه شديدة) براءة القيادي المتمرد بحركة تحرير السودان بحر الدين ادريس أبو قردة من تهم تتعلق بجرائم حرب في دارفور الا هذا التوقيت لكي تجعل موقفه التفاوضي في الدوحة قوياً، كونه اعترف بالمحكمة وذهب بطوعه وسلم نفسه، وتلقي كل الاتهامات (بصدر رحب) ثم قدم دفوعاته وترافع أمام عدالة المحكمة وفي النهاية لم يصبه أذي وانما حصل علي البراءة دون أن يحبس علي ذمة المحاكمة ودون أن يطلق سراحه بكفالة مالية مع أن أحكام المحكمة تصل الي السجن المؤبد وهو يستدعي بقاء المتهم رهن الاعتقال الي حين انتهاء المحاكمة!! هذين الاتجاهين يفصحان بجلاء- بفصاحة قانونية وسياسية غير مسبوقه- عن ذهنيه المحكمة ومن يمولونها ويقفون من ورائها فهي جاهزة لاحداث الاثار السياسية المطلوبة فمن ناحية أرادت عرقلة ترشح الرئيس البشير، وعرقلة المفاوضات أو علي أقل تقدير اضعاف الموقف الحكومي منها، ومن جهة أرادت (اعطاء الانموذج) علي أنها محكمة عادلة يمثل أمامها المتهمون فلا تحبسهم، وانما تدع لهم الخيار ليذهبوا ويعودا ويترافعوا ثم يحصلوا علي البراءة! وليس ببعيد عن أن هذا الاسلوب الشبية بأسلوب (مخادعة الاطفال بالحلوي حين يراد وضع حقنة في اجسادهم) هو محاولة من المحكمة لجرجرة المطلوبين لديها من المسئولين السودانيين ليمثلوا أمامها. فهي هنا تقول- ببساطة- أنها عادلة بدليل تبرئتها لمتهم من دارفور كما أنها تقول أيضاً أن حملة السلاح في دارفور يعترفون بها في حين الحكومة السودانية لا تعترف بها. ان الأمر- للأسف الشديد- زاد من سؤ الموقف فالاجراءات التي اتبعت مع أبو قردة لم نسمع عنها لا سماعاً لشهود ولا استجواباً لمتهم ولا مرافعات مفتوحة لمحامين، ولا استعراض لحيثيات قرار ولا هذا ولا ذاك. أمور كلها (دارت في السر)، وجرت بطريقة (ودية بحته) وتم اختيار توقيت معين لها. وان كان في هذه المحكمة من أذكياء فهم علي اية حال خانهم ذكاؤهم تماماً وخرجت المسرحية بدون أي لمسات فنية جاذبة!