مع أن الأمر بدا روتينياً جداً، إذ تقوم الادارة الامريكية فى الثالث من نوفمبر من كل عام بتجديد حالة الطوارئ المبنية على أساسها العقوبات المفروضة على السودان وذلك منذ العام 1997 إلاّ أن أحداً لا يمكنه ان يتصور ان حالة طوارئ وإجراءات عقاب تستمر لما يجاوز ال 15 عاماً تكون فيها الأسباب والمبررات – طوال هذه المدة – هى نفسها ذات الاسباب والمبررات! ففي خطابه الموجه الى مجلسيّ النواب والشيوخ أعاد الرئيس أوباما تكرار ذات العبارات التى ظلت تتكرر بذات الأحرف وذات المعاني طوال هذه المدة من شاكلة ان سياسات السودان ما زالت تمثل سياسات معادية لمصالح الولاياتالمتحدة وتشكل (تهديداً غير عادي) و (إستثنائي) للأمن القومي للولايات المتحدة، إذ من الطبيعي ان يتعجب أيّ مراقب من هاتين العبارتين على وجه الخصوص. ذلك ان المنطق يقول انه اذا كانت سياسة السودان بهذا القدر وهذه الدرجة من التهديد الغير عادي والاستثنائي للأمن القومي الامريكي فإن واشنطن – بهذه المثابة – لابد أن تكون فى حالة حرب معلنة مع السودان، ذلك أن الذى يعرف طبيعة الاستراتيجية التى تتّبعها الولاياتالمتحدة منذ نشأتها -كدولة مهاجرين قائمة فقط على المصالح، والمصالح فقط- يستغرب كيف تعيش هذه الدولة فى حالة هدوء وتوافق مع السودان وهو يشكّل لها كل هذا القدر من التهديد لأمنها القومي؟ متى كانت واشنطن (هادئة) و (ساكنة) حيال تهديد غير عادي واستثنائي لأمنها القومي، وهى التى قرر آباؤها المؤسسين منذ ما يجاوز المائتيّ عام نقل الحروب من حدودها الى بلدان الآخرين لمجرد شعورها بأنهم يهددون أمنها القومي. فالافتراض هنا أحد أمرين؛ إمّا أن السودان بالفعل يهدد أمن الولاياتالمتحدة بكل هذا الدرجة العالية وهى عاجزة عن مواجهة هذا التهديد مكتفية فقط بإجراءات عقابية، أو أنها مجرد عبارات حُشدت لها أقصى درجات المبالغة والخيال لأغراض الإبقاء على هذه العقوبات لأطول فترة ممكنة! وبالطبع فى الحالتين، فإن الامر لا يليق أبداً بدولة عظمي. واذا كان مفهوماً فى هذا السياق ان الرئيس اوباما – فى هذا التوقيت الحرج – لا سبيل أمامه سوى تجديد هذه العقوبات بإعتبار أننا الآن فى عام إنتخابي وداخل حلبة السباق الرئاسي الساخن، فإن الكونغرس الذى يعرف أعضاؤه الكثير، والكثير جداً من المتغيرات الهائلة التى طرأت على الاوضاع فى السودان منذ إقرار العملية السلمية الشاملة، وإجرائه استفتاء الجنوب وسلام دارفور وسلام الشرق، وحلحلة القضايا العالقة بينه وبين دولة الجنوب، كان من الضروري أن يقف قليلاً ويمعن النظر فى هذه المتغيرات فلربما إحتاجت هذه الدولة العظمي – رغم قوتها وجبروتها – لشيء ما غداً لا يوجد إلا لدى الخرطوم! ولم لأ، والسياسة ميدان فسيح وشائك وفيه من التقلبات والأزمات ما فيه. إن من حق واشنطن ان ترسم سياستها الخارجية كما تشاء، ولكن بالمقابل فإن حدود تلك السياسة تنتهي بحدود حقوق الآخرين، فكما ان المبدأ فى العلاقات الاجتماعية العادية ان حرية الفرد تنتهي ببداية حريات وحقوق الآخرين، فإن الامر نفسه ينطبق فيما يخص علاقات الدول. لقد إحتمل السودان بقدر وافر من رباطة الجأش والهِمّة كل هذه الاجراءات الامريكية لعقد ونصف، ما صرخ يوماً ولا توسل، وبإمكانه أن يتعايش معها لعقود قادمات، ولكن تظل واشنطن التى كثيراً ما أطلقت الوعود وتعهدت بتعهدات هى الطرف المطلوب، وهى الخاسرة من هذا المسلسل المطوّل من الأزمات المصطنعة.