مهما كانت طبيعة العدوان الاسرائيلي الذى جري فى الرابع والعشرين من اكتوبر الماضي على مصنع اليرموك للاسلحة جنوبيّ الخرطوم، فهو على أية حال عدوان متوقع من دولة مصنوعة قائمة على شرعية الاحتلال والأمر الواقع، تفترض أن كل الذين يحيطون بها هم أعدائها؛ فهي بهذه المثابة عدوٌ يعرف أعدائه ويخشاهم ولذا يبادر بمهاجمتهم كلما ساورته الشكوك بشأن نواياهم. وبالطبع الأسلوب الذى تتبعه اسرائيل بهذه الصفة هو فى حد ذاته أصدق دليل على أنها دولة خائفة بإستمرار، إذا ما عبثت الريح ببابها، فزعت، وأفرغت كل رصاص مسدسها فى الظلام. واسرائيل حين قصفت العاصمة السودانية الخرطوم كانت خشى كل الخشية، رد الفعل السوداني الشعبي والجماهيري بأكثر مما كانت تخشي الرد العسكري، فالدولة العبرية التى تعاني من عقدة الشرعية، وتقيم على مساحة صغيرة، تعرف ان غضب الشعوب وتلاحمها مع حكوماتها هو الأكثر تأثيراً عليها من أيّ شيء آخر، ولهذا فقد قامت هذه الدولة أول ما قامت على الآلة العسكرية وتكديس السلاح، والمبادأة بالضرب ثم الهرب، لأنها تراهن فقط على القوة المادية وليس لها (شعب) نابض بالوطنية يمكنه ان يقف هاتفاً بحياتها راغباً فى التضحية، قادراً على إمضاء إرادته؛ حتى اليوم لم تُسيَّر مسيرة جماهيرية شعبية فى اسرائيل لأيّ سبب من الأسباب! إذن العدوان الاسرائيلي قام على فرضية مهمة جداً، وهى أن يتزامن مع العدوان ثم تعقبه (عملية) إعلامية دعائية شديدة المكر والدهاء تتمثل فى شغل الاوساط السياسية فى السودان بصفة خاصة بتحالفات السودان وإيران ومجموعات حماس وحزب الله وغيرها من المنظومات المقاوِمة. وبالطبع كانت اسرائيل تعلم وتراهن بحسابات على أن قوى المعارضة السودانية يمينها ويسارها زاخرة بمن يمكن أن يؤدوا هذه المهمّة على وجهها الأكمل وبكفاءة عالية. كانت تعلم ان هنالك معارضين سودانيين بلغت درجة خصومتهم السياسية أنهم بإمكانهم التحالف معها - إذا دعا الأمر - لإزالة الحكومة السودانية حنقاً وتشفياً وأخذاً للثأر السياسي. ولهذا كانت مهمّتها الدعائية سهلة للغاية، فقد إنبرت قوى المعارضة السودانية بأسلوبها المعهود فى ذم وإنتقاد الصلات التى وصفتها بأنها (مشبوهة) –كما قال بذلك المسئول السياسي بالشعبي– كمال عمر الأمين – للحكومة السودانية بجهات إقليمية معروفة. كل قوى المعارضة السودانية إهتمّت فقط بإنتقاد هذه الصلات ومطالبة الحكومة بالتحلل منها، بل وحتى بعض المثقفين والمنتمين الى النخبة إنبروا للحديث عن الابتعاد عن المحاور الاقليمية وعدم قدرة بلادنا على مواجهة اسرائيل! كانوا – للاسف الشديد – وبمنتهي الدقة والتفاني – علموا أم لم يعلموا – يحققون للدولة العبرية واحدة من أهم مطلوباتها الاستراتيجية العاجلة، فالعدوان صارخ ويمكن أن تترتب عليه نتائج وخيمة وتداعيات صعبة واسرائيل فى حاجة عاجلة وملحة لشغل شاغل يشغل الوسط السياسي السوداني عنها، ويضع العدوان فى مؤخرة الذهن السياسي السوداني. كل الذين تناولوا الحادثة، تناولوها كنتيجة، ولم يتناولوها كحدث وعدوان سافر مخالف للقوانين الدولية. كل الذين لديهم مرارات مع الحكومة السودانية أظهروا بين سطور نقدهم شماتة ضمنية وبعضها مباشرة وكأنّ العدوان واقع على صحراء أجنبية مجاورة ولم يقع على أرض سودانية، ونسوا جميعاً أن اسرائيل لم تكن تريد أكثر من أن يُوجّه اللوم (نيابة عنها) الى الحكومة السودانية؛ فلولا علاقاتها وصلاتها بإيران – بحسب الزعم والدعائية الاسرائلية – لما حدث ما حدث، ولا ينسى آخرون ان قدموا نصحاً للحكومة السودانية بأن تفك إرتباطها مع ايران وغيرها! بل إن الأمين السياسي للشعبي – وبملء فيه – لم يكترث كثيراً بإدانة العملية، وإنما ركز كل حديثه فقط حول طبيعة علاقات الخرطوم بأولئك الذين يعادون اسرائيل! إن العدوان السياسي، الذى نبع من داخل الوسط السياسي السوداني هو فى الواقع أشد وقعاً وألماً من العدوان الاسرائيلي، فقد ضمنت الدولة العبرية – دون عناء من جانبها – حلفاء لها داخلياً، لم تبذل مجهوداً عملياً للإستمالتهم الى صفّها، هى فقط حسبت حساباتها وقرأت بإمعان سلوكهم السياسي وتنبأت بما يمكن ان يخدموها به. إن هذه المواقف الغريبة من القوى السياسية السودانية هى خير دعم للدولة العبرية أرادوا ذلك أم لم يريدوه، وهو العدوان الذى جاء على أنقاض العدوان الاسرائيلي!