لم يشهد السودان في تاريخه معركة انتخابات بهذا الحماس والندية في الترشيحات وكثرة المتنافسين وإقبال جميع الأحزاب والقوى السياسية نحوها، وأيضاً متابعة حكومات العالم ومنظماته لها، ويتأتى كل هذا من أن البلاد تعاهدت على تحول ديمقراطي بعد صراع عنيف للوصول إلى السلطة أو التمسك بها، كما أن استحقاقات نهاية الحرب الأهلية الدامية في الجنوب الممتدة منذ نصف قرن وإرهاصات نجاح المفاوضات مع الحركات المسلحة في دارفور تحتم العودة إلى المواطنين لاختيار الثقاة لتولي أمر البلاد في المرحلة القادمة والهامة في ظل الديمقراطية والتعددية الحزبية، وتقدير الرأي الآخر والمعارضة الإيجابية والبرلمان الفاعل والحكومة المتجانسة المسنودة بالأغلبية الشعبية، وأيضاً مدى احترام العالم وتعاونه مع تلك الحكومة. والملاحظ أن منظمة عالمية معتبرة وهو مجلس الأمن ودولة غربية لها ارتباط قوي بالسودان منذ القدم هي بريطانيا، سارعا إلى تثبيت موقفين إيجابيين بالنسبة لهذه الانتخابات، وذلك رغم ما يعج داخل المجلس من إشارات عدائية تجاه الخرطوم، وسياسات لندن المنحازة إلى أمريكا في صراعها ضد (الإنقاذ)، فقد أشاد مجلس الأمن (الخميس) بالخطوات الجادة من الحكومة لقيام الانتخابات ووصف أعضاء المجلس الجهود المبذولة لعقد الانتخابات بأنها بالغة الأثر، أما موقف بريطانيا فقد عبّرت عنه روزاليندا مارتلاند سفيرتها لدى الخرطوم وبكلمات قوية منها (إن الخرطوم ستجتاز الانتخابات بنجاح كبير) ووصفت هذه الانتخابات ل(الرأي العام) بأنها آخر التحديات التي تواجه السودان وإن المتشائمين بمستقبل السودان تنتظرهم خيبة أمل كبيرة. إن الظهور المبكر للرئيس الأمريكي الأسبق (كارتر) في الخرطوم (أمس الأول) لم يكن بشأن مكافحة الدودة الشريطية في الجنوب أو اهتمامه بزراعة فول الصويا، كما طفحت تصريحاته، ولكنه أجرى اتصالات وعقد اجتماعات وبذل وقتاً طويلاً للتأكد من أن إجراءات الانتخابات سليمة لأنه يترأس معهداً دولياً ناشطاً في مراقبة أي انتخابات إذا دعي لها، وهو ما حدث فعلاً عندما فتحت له الحكومة أبواب تلك العملية على مصراعيها والالتقاء بالمفوضية المكلَّفة بها، وما يؤكد هذه الجدية اختياره (40) من المراقبين بالمعهد لهذه المهمة. وبهذا تكون أمريكا وبهذه الرمزية في مشاركة أحد رؤسائها السابقين قد اطمأنت إلى تقاريره، رغم تصريحه بأن الجولة الأولى لانتخابات رئيس الجمهورية لن تكون حاسمة. إن أحد أهم كروت المعارضة بالرهان على المجتمع الدولي ومنظمات ودول بدأ يفقد بريقه وفعاليته بعد أن شهد اثنان من أقوى عناصره بأن الانتخابات في اتجاهها الصحيح، ولم يبق أمام هذه المعارضة سوى الانكفاء إلى الداخل واللحاق بالحملة الانتخابية التي بدأت أمس الأول، حيث فتحت القنوات الفضائية شاشاتها البلورية الجذابة والإذاعات مايكروفوناتها القوية والصحف صفحاتها لجميع المرشحين لمخاطبة الناخبين بما ينفعهم ويلبي مطالبهم، بعيداً عن التراشق بالألفاظ والكيد السياسي الذي أصبح طابع المهرجانات السياسية المفتوحة في الساحات العامة والمنشورات والهتافات التي لا تليق، ولا شك أن الناخبين موعودون بمناظرات قوية ومفيدة بين المرشحين تصب في المصلحة العامة بعيداً عن الجهوية والعنصرية، إذا أحسن هؤلاء استثمار فرصة المخاطبة من الأجهزة الإعلامية، وهو ما لم يتوفر في جميع الانتخابات السابقة. إن الموقف الواضح من مجلس الأمن وبريطانيا بشأن الانتخابات لم يصدر من فراغ، ولكن قطعاً بعد تقارير وقراءة متأنية لمجريات تسجيل الناخبين الذي تم في هدوء ودون مهددات أمنية أو تجاوزات تذكر، وكان لحسم الشكاوي قضائياً أو من قبل مفوضية الانتخابات كما ينص قانون الانتخابات، وفتح الباب حتى المحكمة الدستورية، وقرار إنشاء النيابات العامة القانونية للفصل في أي مخالفة الأثر الواضح في سد أي ثغرات يمكن أن تحتج بها المعارضة، ولا شك أن العديد من المراقبين الدوليين والإقليميين بدءوا في شد حقائبهم باتجاه الخرطوم ولن ينتظروا حتى اليوم السابع من أبريل القادم وهو بداية الاقتراع للقيام بمهامهم، مما سيعطي زخماً خارجياً مطلوباً ومبكراً لفتح العيون في كل الاتجاهات، ولا يظن أحداً بأن الحكومة وحدها ستكون المستهدفة من هذه الرقابة التي تغطي الجميع. إن البلاد من اللحظة التي بدأت بفتح كشوفات التسجيل وانتهت بحصر المرشحين وإعلان بداية الحملات الدعائية تكون قد دخلت عملياً في خضم معركة الانتخابات، والمطلوب من اليوم إثبات أننا شعب يجيد الممارسة الديمقراطية ويؤمن بالحرية له وللآخرين، حتى نحوز على احترام العالم كما حدث في مناسبات كثيرة، منها الالتفاف الشعبي حول الحكومة والمعارضة بعد الاتفاق على استقلال السودان، الذي كانت تتجاذبه الوحدة مع مصر أو اللحاق بالكمنولث البريطاني، وكذلك عندما قام المشير سوار الذهب في التاريخ المحدّد وفي أول مبادرة يشهدها العالم الثالث بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.