هل كانت جوبا تمارس حيلة ماكرة حين عرقلت بطريقة ما، إجتماعات اللجنة الأمنية المكلفة بإنفاذ الترتيبات الأمنية الأسبوع ما قبل الماضي؟ وهل كان هدفها من وراء ذلك المسارعة بضخ النفط – إنفاذاً لإتفاق التعاون المشترك – مع تأخير وإبطاء ملف الترتيبات الأمنية لحاجة فى نفسها؟ الإجابة على هذين التساؤلين لا تخلو من صعوبة إذ أن النوايا المستترة فى الشأن السياسي عادة، والشأن السوداني الجنوبي بصفة خاصة تظل دائماً محلاً للتجاذبات ولا ينقصها الغموض. غير أن اللقاء الأخير الذى جري الاربعاء الماضي فى الاسبوع المنصرم بين وزير النفط السوداني الدكتور عوض الجاز ووكيل وزارة النفط الجنوبي (مشار أشيك مدير) كشف جانباً من ما يمكن ان نسميها الحيلة الجنوبية الهادئة والناعمة. فقد حرص د. الجاز على التأكيد للوفد الجنوبي الزائر أن ملف الأمن له الأولوية والأسبقية علي ملف النفط، وهى تأكيدات كان د. الجاز قد إستبقها بتأكيدات أخرى سابقة قال فيها إن الموازنة العامة للدولة لن تعتمد على عائدات تصدير النفط الجنوبي، وإنما ستعتمد فى القريب العاجل على إنتاج نفطي خاص بالسودان. الوفد الجنوبي الذى ترأسه وكيل وزارة النفط الجنوبية حطّ رحله فى الخرطوم بطريقة أقرب الى المفاجأة، حيث لم تستبق وصوله أخبار واضحة؛ كما أن العجلة فى الإسراع بعملية إعادة الضخ بدت واضحة فى كل تحركات وسكنات الوفد الجنوبي، الأمر الذي كان من المحتم ان يستوقف الجانب السوداني ويثير ريبته، إذ ليس من المنطقيّ -مهما حسُنت النوايا- أن تتعجل جوبا ضخ النفط -وكان قد تقرر له الأسبوع الحالي بالفعل- وفى ذات الوقت تتباطأ فى ملف الترتيبات الأمنية على الرغم من علمها ان ترسيخ الأمن وإعادة الهدوء والاستقرار الى حدود الدولتين هو المدخل الجيّد لعملية إعادة ضخ النفط فى سلاسة ويُسر ودون أيّ تعقيدات، وعلي الرغم من علم جوبا أيضاً، ان الجانب السوداني سواء فى مراحل التفاوض الأولى، أو حتى أثناء القمة الرئاسية التى جمعت بين رئيسيّ البلدين فى أديس فى سبتمبر الماضي، ظل يؤكد على ضروة حسم ملف الأمن قبل أيّ ملف آخر لشدة أهميته فى تمهيد الطريق لحلحلة بقية الملفات. وبهذه المثابة تبدو جوبا كمن يحاول إبتلاع الكيكة كلها بملعقة صغيرة دفعة واحدة! لقد تبيّن بقدر معقول من الوضوح ان جوبا تود أن تعيد الدماء الى شرايينها بسرعة بإعادة ضخ النفط ومعالجة أزمة موازنتها العامة بمعزل تام عن ملف الترتيبات الأمنية لكي تحقق هدفين مزدوجين: الزعم بأنها نفذت قدراً كبيراً من إتفاقية التعاون المشترك بما ينفي عنها أيّ شُبهة عرقلة أو تباطؤ؛ ومن جهة ثانية، إستعدال ميزانها الاقتصادي وتفادي الآثار السالبة التى ترتبت على وقف ضخ النفط وتحاشي إنفاذ الملف الأمني الذى سوف يكلِّفها الكثير سياسياً. ليس من السهل ان ننظر الى تصرفات جوبا بهذا الصدد بإعتبارها عادية ومصحوبة بنوايا حسنة، فنحن نعلم ان الملف الأمنيّ فى مرتبة بين الحرام والمكروه لديها، لأنه يخصم منها -وإلي الأبد- رصيد الورقة السياسية الخاصة باللعب على الساحة السياسية السودانية، ويجعلها ناعمة الأظافر فى تعاطيها مع الشأن الثنائي بينها وبين جارها السودان. من المؤكد ان جوبا لا تستسيغ الملف الأمني وتشعر به كحمل ثقيل حملته على مضض وهناً على وهن، وتريد ان تجعل فصاله فى أكثر من عامين! إن من شأن إعادة ذات هذه الحركة الفلسفية الدائرية، أيهما كان أولاً، البيضة أم الدجاجة، أن يعقِّد ملف النزاع بين الدولتين بأكثر مما هو معقد، وبأكثر مما قد يتعقد بفعل الحراك الجاري الآن بشأن ملف أبيي، ولو إعتقدت جوبا – خطأً – أن بإمكانها الخروج من المولد بالحمص كله وبعروس المولد والزفة، فقط لأنها تستند على ظهر دوليّ قوي، فهي دون شك مخطئة إذ أن في جعبة السوداني الكثير مما لم يحن الأوان بعد للكشف عنه!