اللعبة التى درجت الولاياتالمتحدة على لعبها - بالمشاركة مع دولة جنوب السودان - كلما تعلق الأمر بالقضايا الخلافية بين الخرطوموجوبا تكرّرت كثيراً جداً بذات الوتيرة وذات السيناريو، بل لا نغالي أن قلنا انها فى بعض الاحيان تتم بذات الأحرف والنقاط وحتى الفواصل، خلاصتها ان السودان دائماً مخطئاً ومقصراً، وأنه هو الطرف الذي يجب إنزال العقاب عليه. الاسبوع الماضي خصّت الخارجية الأمريكية فى بيان خاص مطول الشأن السوداني الجنوبي بإهتمام بالغ، ظاهر البيان حث الجانبين على المضيّ قدماً فى إنفاذ إتفاقهما المعروف بإتفاق التعاون المشترك الموقع فى أديس أبابا فى السابع والعشرين من سبتمبر الماضي، وحرص واشنطن على إنفاذ الاتفاق لمعالجة النزاع الناشب بين الدولتين وترسيخ الاستقرار. أما باطن البيان فهو الاشارة -بمكر وخُبث- الى أن الجانب السوداني هو من يعرقل إنفاذ الاتفاق بتسبُّبه فى منع إعادة ضخ النفط الجنوبي. الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت وبالتزامن مع البيان الأمريكي قال لوسائل الاعلام ان بلاده كانت قد شرعت فى ضخ النفط إلا أن الحكومة السودانية فاجأتهم بمطالب جديدة! الرئيس كير كان يؤدي دوراً مرسوماً بعناية فحواه، أن الخلل كله فى إنفاذ الاتفاق جاء وعلى نحوٍ مفاجئ لهم – من الجانب السوداني؛ والصورة بهذه المعطيات بدت شائهة تماماً كما بدا وكأنّ المشكلة كلها ان السودان لا يريد للنفط الجنوبي ان يصدر عبر الموانئ السودانية، هكذا دون ذكر الأسباب والمبررات. ومن المعلوم ان السودان حتى هذه اللحظة لم يصدر عنه رسمياً قراراً يمنع إنسياب النفط الجنوبي وإعادة ضخه. الذى حدث -ومعلوم للحكومة الجنوبية ومعلوم للمراقبين- أن السودان قال إن الأفضل – من كل النواحي – العمل على إنفاذ الملف الأمني ومعالجة الاختلالات الأمنية على الحدود وضمان الاستقرار الأمني على الجانبين، ومن ثم إعادة ضخ النفط. والصيغ السياسية فى العلاقات الدولية شديدة الأهمية والحساسية، فالفارق جوهريّ وشاسع للغاية ما بين المطالب بإنفاذ الترتبيات الأمنية أولاً ومن ثم معالجة الملف النفطي، وما بين رفض إعادة ضخ النفط؛ وهى قضية بديهية ولفرط بداهتها لا تحتاج لكثير وقفة وشرح. الحكومة الجنوبية –وعلى وجه الخصوص الرئيس سلفا كير مبارديت– يعلم تمام العلم ان قضية الترتيبات الأمنية هى قضية استراتيجية شديدة الاهمية إذ لا يُعقل ان يُعاد ضخ النفط وهناك تعقيدات أمنية وهنا متمردين ينشطون على الحدود ولا تكف جوبا عن دعمهم. إن من شأن وجود إختلال أمني فى ظل تدفق النفط أن يرفع قيمة الكُلفة الأمنية، وربما تسبّب حملة السلاح فى الإضرار بأنابيب النفط رغم صعوبة وإستحالة هذه الفرضية، ولكنها فرضية لا يمكن تجاهلها أو إسقاطها تماماً. من جانب ثاني -وهذه هى النقطة الأهم- فإن أحداً فى الواقع لم يلقي بالاً للسبب الذى حال دون إنفاذ هذه الترتيبات عند إنعقاد أول اجتماع للجنة الأمنية المشتركة فى جوبا أواخر اكتوبر الماضي. لقد عرقلت جوبا أيّ خطوة بإتجاه إنفاذ هذه الترتيبات ونجحت فى فضّ الاجتماع الى لا شيء. لم تتحرك واشنطن وقتها لتقول لجوبا أنك أخطأتِ أو أنكِ عرقلت إنفاذ الترتيبات الأمنية؛ لم يصدر بيان عن الخارجية الامريكية يومها يلقي باللائمة على أحد. من جانب ثالث، فإن الأمر بدا غريباً للغاية أن ينصبّ كل اهتمام واشنطن – من بين كل الملفات الخلافية – بملف النفط فقط، إذ على الرغم من أن واشنطن مغرمة فى العادة بالنشاط النفطي ولها تعطُّش دائم لمنابع النفط، إلاّ أن سلامة هذا الملف وحسن ضمان سيره بسلاسة مرتبط دون شك إرتباطاً وثيقاً بالملف الأمني، مما يشير الى أن التكتيك الذى يتبعه الطرفين، جوباوواشنطن، قائم فقط على ضمان إعادة ضخ النفط لصالح الاقتصاد الجنوبي ولصالح المصالح الامريكية، ولا شأن لهما بالمصالح السودانية، وهو أمر من شأنه أن يهدِّد الاتفاق فى مجمله، وقد يعيد الأمور الى مربعها الأول، عاجلاً أم آجلاً.