ما من شك ان الشائعة واحدة من أخطر أسلحة هدم وتمزيق المجتمعات الانسانية سواء كانت شائعة سياسية أو إجتماعية أو اقتصادية، فأثرها فوري ومباشر وضررها لا يقف عن حد اللحظة الراهنة التى تُطلق فيها، وإنما قد يمتد لأشهر وسنوات وقد لا يقتصر الضرر على الشخص المعني بها، ففي أحيان كثيرة يمتد للمدى الذى تمتد فيه أسرة المعني وأقربائه وأصدقائه، بل حتى وطنه بكامله؛ فهي كما هو معروف معلومة خاطئة مائة بالمائة يتم إطلاقها بإعتبارها معلومة صحيحة. وبالنسبة للسودان ففي الشهور القليلة الماضية شكلت الشائعة عنصراً من عناصر أزمة هذا البلد فباتت ممن متلازمات أزماته اليومية، وكانت ذروة هذه الشائعات ما أُشيع وما يزال يُشاع عن صِحة الرئيس البشير منذ سفر إستشفائه بالعاصمة السعودية الرياض ومكوثه هناك لأسبوع، ثم عودته ومباشرته لمهامه. وكانت آخر الشائعات التى راجت مطلع الاسبوع الماضي شائعة تقول انه عاد مرة أخرى للرياض لذات العلة! قبل أن يتصدى للشائعة مكتبه الاعلامي بالقصر وينفي قطعياً ما راج مع تأكيدات قاطعة بوجود الرئيس فى الخرطوم ومباشرته لمهامه المعتادة. ثم جاءت حادثة المحاولة التخريبية التى بدأ الحديث عنها يأخذ بعداً ترويجياً أواخر الاسبوع ما قبل الماضي وإستغلَّ مطلقو الشائعات حذر وحرص الجهات المعنية فى الحكومة على سلامة التحقيقات الجارية مع المُتحفَظ عليهم ليطلقوا عشرات الشائعات التى طالت أسماء وأفراداً ومسئولين قِيل إنهم شاركوا فى المحاولة. كانت حادثة المحاولة التخريبية -وربما لا تزال- الحادثة الأوفر حظاً فى إطلاق الشائعات حتى بدا الاعلام الحكومي بكامله مصدّاً للنفي فقط وللتصحيح المتواصل بما يُستشف منه ان هناك من يقومون بهذا العمل بصورة منهجية مرسومة بعناية بهدف زعزعة الاوضاع فى البلاد وتشتيت الذهن الرسمي الحكومي والاصطياد فى مياهه العكرة. ولعل مما سهّل تسهيلا بالغاً سيل هذه الشائعات وسريانها كما تسري النار فى الهشيم، المواقع الاسفيرية والصفحات الاجتماعية فى الانترنت كالفيس بوك وتويتر، وأدوات التواصل الحديثة التى صارت بالغة السرعة والتأثير. ويعتقد خبر إعلاميين بوزارة الاعلام السودانية فى الخرطوم ان ترويج الشائعات عمل منظم ومقصود لخدمة استرايجيات جهات سياسية معارضة هدفها إحداث هزة إعلامية فى الأوساط السياسية السودانية، تتيح لهم إما إجبار السلطة الحاكمة على إخراج المعلومات التى بحوزتها قطعاً لدابرها، أو إشعارها بأنها مخترقة بواسطتهم وتشكيكها فى منسوبيها. ويرى الخبراء ان مطلقي الشائعات لا يتمتعون بوازع من الضمير فى الغالب ولا يتمتعون بالقيم والأعراف السودانية النبيلة لأنهم فى جزء من هذه الشائعات يطلقون شائعات عن موت بعض الشخصيات الهامة، كما فعلوا بالنسبة للرئيس البشير وعن تدهور صحته حسب زعمهم، وكما فعلوا أيضاً بشأن الزعيم المثير للجدل الدكتور الترابي. ويرد بعض الخبراء الأمر الى أسباب تفوق مجرد الخصومة السياسية ويشيرون الى أنها حرب نفسية بسلاح فتاك لا مكان فيها لأيِّ أخلاق من أي نوع وبأي درجة. ويشيرون الى ان أسلوب الشائعات عُرِف تاريخياً لدي الحزب الشيوعي السوفيتي الذى كان يُنشِئ ما يُعرَف بمراكز إطلاق الشائعات وكانت تستخدم وقتها للإساءة الى الخصوم والإضرار بهم بأقذع وأسوأ الطرق، ومن ثم إنتشرت هذه المراكز التى كان يديرها خبراء متخصصون فى أرجاء شتى من البلدان التى إعتنقت الفكر الماركسي، وقيل وقتها أن بعض هذه المراكز كان يطلق الشائعة ثم تذهب وتعود الي المركز فى زمن قياسي للدلالة على مهارة الخبراء وقدرتهم على الاطلاق. ولا شك ان المجتمع السوداني الذى عاش متغيِّرات سياسية وإجتماعية واقتصادية، بل وحتى ثقافية فى العقدين الماضيين يعيش الآن بالضرورة تحولاً دراماتيكاً فى كل شيء، وهو ما وفّر لبعض الممارسات الدخيلة التى لم تكن معروفة فيه مرتعاً خصباً للنمو والاستشراء فى طوله وعرضه فى زمن قياسي. غير أن سلاح الشائعة كسلاح سياسي فى الغالب تستخدمه الآن بعض القوى المعارضة ليس من المتوقع ان يحظى بإستمرارية على المدي البعيد، ذلك أن واحدة من أهم الآثار السالبة على الشائعة أنها وبمرور الوقت وحين تنجلي الحقيقة تصبح بلا قيمة ويتحفز الذهن الجمعيّ لتكذيب أية شائعة مجدداً، أو على الاقل يبدأ بالتشكيك فيها ولا يصدِّقها بسهولة وإن صدقها فإنما يصدقها بحذر ومن ثم فإن عمر الشائعة يصبح قصيراً جداً ويفقد بذلك مطلقوها عنصر المصداقية كنتيجة محتومة لأيّ أخبار كاذبة تروج بإستمرار وبمعدل عالي التدفق. وعلى كلٍ، فإن الصورة بدأت تتضح فى ذهن المجتمع السوداني، وبدأ الكثيرون يحجمون تماماً عن التفاعل مع هذه الشائعات بعدما أيقنوا أنها لا تعدو كونها محض إشاعات.