كما توقع الكثير من المراقبين –كلٌ بحساباته وتقديراته– فإن حادثة إسقاط جوبا لمروحية تابعة للأمم المتحدة بولاية جونقلي –الجمعة الماضية– سرعان ما دخلت حيز التجاوز والعفو والنسيان. جوبا لم تفعل الكثير لاسترضاء نيويورك، ونيويورك هي الأخرى – وبفضل الكوابح الأمريكية الجيّدة – لم تمضِ فى مضمار الحادثة أكثر من قبول الاعتذار الجنوبي (الصامت) تقديراً وعرفاناً للخاطر الأمريكي. الأمر بهذه المثابة لا يهمّنا كثيراً، إذ تتعدد الأسباب والمبررات والعفو والصفح واحد. ولكن قطعاً هنالك ما يهمنا فى هذا الحادث العرضي الهام لأن جوبا وفيما يبدو من سياق تبريراتها للحادثة أقحمت السودان من حيث تقصد. فقد قال المتحدث بإسم الجيش الشعبي فليب أقوير إن إسقاط الطائرة الأممية تم بغير قصد، إذ أن الجيش الشعبي كان (يعتقد) أن المروحية تابعة للجيش السوداني الذي –بحسب أقوير– درج على قصف مناطق جنوبية وتقديم الدعم لثوار ينشطون ضد الحكومة الجنوبية! الاستثمار السياسي الجنوبي للحادثة بدا للوهلة الأولى ذكياً وماكراً، فقد سارعت جوبا بضرب عصفورين بحجر، أعادت التذكير بالقصف الجوي السوداني لأراضيها من جهة، كما استغلت الادعاء بذلك فى استدرار العطف الأممي من جهة ثانية، فقد كان مؤدى ما قاله الجيش الشعبي إن بلاده (معذورة)، فهي مشغولة بالهجمات السودانية وذهنها مشوّش بهذه الهجمات، ولذا يجب عدم لومها إن هي فسرت الأمور لصالح أمنها! غير أن هذه الحجة الجنوبية – للأسف الشديد – لم تصمد ولو لدقائق على الرغم من أن الأممالمتحدة كما أسلفنا تجاوزت الحادثة بسرعة البرق وصفحت عن الحكومة الجنوبية . فمن جهة أولى فإن طائرات الأممالمتحدة -بعلاماتها المميزة- لا يمكن لأيّ بلد أن يخطئ فيها، وإذا ما حدث ووقع خطأ فهو لا يُغتفر، فهذه ليست هي المرة الأولي التي تطير فيها طائرات للمنظمة الدولية فى أجواء دولية وهى تتخذ من كافة الاحتياطات الأمنية ما يكفي للحيلولة دون الاعتقاد أنها طائرات غريبة أو معادية. خطأ الحكومة الجنوبية فى عدم إدراك هوية الطائرة الأممية هو فى حد ذاته خطأ قانوني، دعك من أيّ تبرير آخر ومن شأن تمرير هذا الخطأ فتح الباب واسعاً للدولة الجنوبية أو لغيرها استهداف طائرات الأممالمتحدة تحت زعم وحجة أنها تعتقد أنها طائرة معادية. هذا فضلاً عن أن قبطان أيّ طائرة أممية فى العادة يحرص حين يعبر أيّ أجواء على التعريف بهوية الطائرة ووجهتها وما تحمله ويكشف عن إسمه وهويته ومن معه، كما يفترض أن السلطات الجنوبية قد طلبت من الطائرة الأممية – قبل إسقاطها – التعريف عن نفسها، اللهمّ إلا إذا تمت عملية الإسقاط، هكذا خبط عشواء وهو ما لا يتصوره عقل! من جهة ثانية فإنه وعلى فرض صحة المزاعم الجنوبية من أنها كانت تعتقد أنها طائرة سودانية، فإن السؤال الذى سيظل معلقاً بلا إجابة الى الأبد هو، لماذا إذن لم يحدث قط أن أسقطت القوات الجنوبية أي طائرة سودانية من قبل إن كان صحيحاً أن الطائرات السودانية درجت على خرق المجال الجوي الجنوبي وتقديم دعم للمتمردين الجنوبيين؟ ذلك أن الذى يستند على فرضية من الفرضيات عليه أن يكون واثقاً من أن هنالك ما يدعم ويثبت صحة هذه الفرضية، وإلا أصبح الأمر من قبيل إطلاق القول على عواهنه. ومن جهة ثالثة فإن حركة طيران الأممالمتحدة فى المنطقة -بسبب وجود قوات الأممالمتحدة- هي حركة عادية ومألوفة بالنسبة للسلطات الجنوبية، ومن المؤكد أن ذلك قد أوجد خبرة بدرجة ما لدي السلطات الجنوبية تحول دون وقو ع خطأ من جانبها فى التعامل معها، وهو ما ينتفي معه إمكانية الخطأ ولو بنسبة 1% . وعلى ذلك يمكن القول إن الحادثة فى الواقع لم تكشف فقط عن طبيعة ازدواجية المعايير حتى على مستوى المنظمة الدولية الواقعة بكاملها تحت تأثير الولاياتالمتحدة؛ ولكن الحادثة بدت وكأنها خطة لا تخلو من خبث لإعادة إتهام السودان بإعتداءات متكررة على الدولة الجنوبية . لقد بدا أن الأطرف الثلاثة، جوبا وواشنطن ونيويورك، يبتكرون (ميزاناً) جديداً خاصاً بالتعامل مع الذين تربطهم (صلة القربى السياسية) بواشنطن، كما لن يكون مستغرباً أن يترك هذا الثلاثي التداعيات الأساسية للحادثة ليوجِّهوا الأنظار باتجاه السودان وعدوانه على الدولة الجنوبية!