عقدت قمة خاصة بين رئيسي جنوب السودان والسودان في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، هدفها حل المشاكل العالقة بين الدولتين، وقال وسيط الاتحاد الأفريقي إن الجانبين اتفقا على إقامة منطقة منزوعة السلاح، يرى الجانبان أنها ضرورية لاستمرار تدفق النفط بينهما. وكان الاتحاد الأفريقي قد دعا إلى هذه القمة لحل جميع الخلافات بين البلدين اللذين لا يبدو أنهما يثقان في بعضهما بعضا. والغريب أن رئيسي البلدين غادرا القمة من دون الإدلاء بأي تصريحات، ولكن الوسيط الأفريقي ثابو مبيكي قال إن الطرفين اتفقا على تنفيذ كل الاتفاقات القائمة بدون شروط، وكان الاتحاد الأفريقي مدعوما ببعض الدول الغربية قد هدد بفرض عقوبات على البلدين إذا لم يتوصلا إلى اتفاق ينهي النزاعات القائمة بينهما. السودان من جانبه رفض إقامة أي محادثات مع الحركة الشعبية قطاع الشمال التي تسعى لإسقاط نظام الحكم في الخرطوم؟ وكان ثابو مبيكي قد طلب من حكومة جنوب السودان قطع سائر علاقاتها مع الحركة الشعبية التي تعادي نظام الحكم في الشمال. وفي البداية نتساءل هل هناك حقيقة مشكلة بين حكومتي السودان وجنوب السودان تستوجب مثل هذا الاهتمام؟ وللإجابة على هذا السؤال أقول، كنت دائما من المعارضين لفكرة انفصال الجنوب، وليس ذلك مجرد موقف سياسي، بل لأنني ظللت أعتقد أن وحدة السودان هي وحدة جغرافية قبل أن تكون سياسية، وقد وضح ذلك الآن كون الخلافات القائمة بين شمال السودان وجنوبه ظلت خلافات حول المنافذ قبل أن تكون خلافات حول أي شيء آخر، خاصة بعد أن أدرك الجنوبيون أنهم غير قادرين على الخروج من دولتهم المغلقة بدون إثارة المشاكل مع شمال السودان. ويجب هنا أن نتحدث بمنتهى الوضوح، ذلك أن المشاكل التي تثيرها دولة جنوب السودان هي مشاكل تستند إلى أسس عنصرية في المقام الأول، فإذا نظرنا إلى الأسباب التي حركت انفصال جنوب السودان وجدنا أنها كذلك، لأن شمال السودان لم يكن يفرض سلطة سياسية على جنوب البلاد، إذ كان هناك دائما نوع من الحكم الفيدرالي الذي استمر في كل الظروف ولم يكن هناك شيء يمنع استمراره، كذلك لم يكن الشمال يستغل خيرات الجنوب بل كان هو الذي ينفق من إمكاناته على الجنوب، إذن لماذا حدث التمرد في جنوب السودان حتى وصل إلى مستوى إقامة دولة مستقلة؟ الإجابة بكل بساطة لأن هناك دوافع عنصرية حركت الجنوبيين الذين كانوا يعتقدون أن شعب شمال السودان هو شعب عربي، وهو بالضرورة في حالة عداء معهم، ولم يكن ذلك موقفا سليما لأن الشمال لم يتخذ مواقف عنصرية معادية من الجنوب. وثانيا لأن شمال السودان لا ينكر جذوره الأفريقية، ذلك أن سكان الشمال لم يأتوا مباشرة من الجزيرة العربية، بل هم، في حقيقة الأمر، مزيج من الأصول العربية والأفريقية، ولكنهم لم يجعلوا في يوم من الأيام أصولهم سببا في اتخاذ مواقف معادية من قبائل جنوب السودان. وهنا يجب أن يتنبه الشمال إلى أن كل المشكلات القائمة سببها هذا الأساس العنصري، وبالتالي فإن الحل السياسي وحده لن ينهي هذه المشكلة، ويبدو ذلك واضحا في موقف الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة ياسر عرمان، ذلك أن هذا الرجل عمل مع الجنوبيين تحت قيادة جون قرنق، وكان كثير من الناس ينظرون إلى مواقفه على أنها مواقف مبدئية، ولكن بعد أن تحقق استقلال الجنوب لم يتوقف ياسر عرمان عن السير في الطريق نفسه، فهو مازال يعمل في الشمال من أجل إسقاط النظام، ولكن إسقاط النظام من أجل ماذا؟ بالنسبة لياسر عرمان يبدو الواقع واضحا تماما لأن ارتباطاته الجنوبية تجعله يفكر كما يفكر كثير من الجنوبيين من منطلقات عنصرية. وهنا نجد الكثير من الشماليين لا ينظرون إلى واقعهم السياسي بطريقة موضوعية، فهم لا يفكرون إلا في إسقاط أنظمة الحكم التي طال بقاؤها لا لسبب إلا لأن هذه الأنظمة لم تحقق الطموحات التي يراها المواطنون في بلاد أخرى، ولكن إسقاط أنظمة الحكم لا يحقق وحده الطموحات، خاصة في بلد كالسودان، وأذكر بهذه المناسبة أني تحدثت مع أحد الأصدقاء حول طبيعة نظم الحكم في السودان، سواء كانت مدنية أم عسكرية، فقلت له إن السودان بلد يختلف عن سائر البلاد في المنطقة، لأنه بلد تسود فيه روح ما يعرف ب'ود البلد' وهو الرجل الذي يحتفظ في داخل نفسه بالقيم السودانية الأصيلة التي لا تجعله ينحرف عن السلوك الاجتماعي مهما ارتقى في درجات السلطة، ويبدو ذلك واضحا عند السياسيين في جميع المراحل، فقد رأينا الزعيم الأزهري يخرج من الحكم رجلا عاديا ورأينا نائبه محمد نورالدين يسكن في أحد المساكن الشعبية في مدينة الخرطوم بحري، وروى الكثيرون أن الرئيس عبود الذي أطاحته ثورة شعبية قال لمفاوضيه في الاستقالة إن لديه مطلبا واحدا وهو تقسيط قرض أخذه من البنك الزراعي يبلغ خمسة آلاف جنيه، وكنت في ذلك الوقت أعمل مفتشا في وزارة المالية ورأيت أعضاء مجلس قيادة الثورة في حكومة عبود يأتون للبحث عن معاشاتهم، وهم كانوا قادرين على أن يحولوا كل إمكانات الدولة لصالحهم ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وأذكر أنني كنت أجلس ذات يوم مع الرئيس جعفر نميري في العاصمة البريطانية لندن بعد خلعه من الحكم وقال لي إنه يعاني من مرض في القلب وإن الأطباء في الولاياتالمتحدة طلبوا منه أن يأتي لإجراء فحوص كل عام، ولكنه لم يتمكن من الذهاب إليهم على مدى عامين لأنه لا يمتلك إمكانات السفر. كل هذه القصص تثير العجب، إذ كيف يتمكن هؤلاء الرجال من السلطة ولكنهم لا يدخلون فلسا واحدا بطريق غير مشروع إلى ذممهم، والإجابة هي أن معظم هؤلاء كانوا يلتزمون بالأخلاق السودانية التي تجعل الإنسان رقيبا على نفسه فلا يتجاسر على ممتلكات الدولة أو ممتلكات الغير. ولكن على الرغم من ذلك فإن الثورات تتواصل في السودان من أجل إسقاط الأنظمة، وهي ثورات لا تحمل جديدا سوى التغيير بسبب الملل أو الرغبة في إحداث نوع من الحراك الاجتماعي، وفي ضوء ذلك لا أريد أن أقول انه لا حاجة للتغيير لأن الآتي ليس أفضل من الذاهب، ولكني أريد من السودانيين أن ينظروا إلى تجربتهم السياسية بعين فاحصة للتأكد من كل ما ذهبنا إليه والبدء في التفكير في الجوهر لا في الشكل، بمعنى أن يكون التفكير موجها إلى إقامة نظم دولة لا الاكتفاء بنظم السلطة، وعندئذ سيحدث التغيير المتفق عليه لأن التركيز على نظام السلطة يثير كثيرا من الصراعات، أما التركيز على نظام الدولة فهو الذي يحقق التوافق بين كل قطاعات الشعب. المصدر: القدس العربي 10/1/2013م