ربما كانت الحكومة السودانية وإلى عهد قريب يساورها شيء من القلق حيال الحراك السياسي السلمي والمسلح الذي تواجهه من معارضيها بالداخل –أحزاب المعارضة رغم ضعفها، ومن الخارج، ما يسمى بالثورية وقطاع الشمال والحركات الدارفورية المسلحة المدعومة ومسنودة جنوبياً ويوغندياً، والى جانب كل هذا الحراك أزمات تترى هنا وهناك. من الطبيعي أن يساور القلق الحكومة السودانية لأنها لن تقف لتصد غائلة مهاجمها فقط، ولكن عليها مع ذلك أن تسيِّر الأمور فى دولابها التنفيذي, وأن تواجه احتياجات مواطنيها وأن تبني وتنجز. كما أن من الطبيعي أن يعصف بها القلق إذا كان صد هجمات معارضيها يتطلب استخدام قدراً معتبراً من موارد الدولة واقتطاعاً قسرياً من قوت وحاجات المواطنين لمواجهة هجمات على الهامش والأطراف تقودها حركات مسلحة، ليست جيدة التسليح، ولكنها مسنودة لوجستياً من الخارج وليس لديها ما تخسره. وهي قضايا لفرض تعقيدها وتشابكها دفعت البعض لإهتبال السانحة ومحاولة إجراء تغيير بالقوة فيما عُرف بالمحاولة التخريبية والتي - كما ثبت حتى الآن - كانت عملية انقلابية بذات عناصر ووصفات الانقلابات العسكرية المعروفة. إن أردنا الإنصاف فإن من النادر للغاية أن تنجو حكومة -مهما بلغت قوتها وثقتها بنفسها- من تعقيدات كهذي وتظل محتفظة ولو بجزء من وجودها. وكان أكثر ما يبدو لها غريباً ومستغرباً للغاية أن الأحزاب السياسية -على ضعفها- أهدرت فرصاً غاليات حين وجهت لها أكثر من دعوة كانت قمينة بأن تفتح لها معبراً جيداً لصالح هذه الأحزاب ولصالح الممارسة السياسية إجمالاً، ثم لصالح عملية البناء الديمقراطي –التى للأسف الشديد– لا تعيه ولا تفهمه الأحزاب السودانية إلا في ديمقراطية وستمنستر، وبذات النهج التقليدي ذي الذيول الطائفية وذات الصراع القديم، تشكيل حكومة وسقوط أخرى، حل البرلمان وإعادة تشكيله. كل قادة الوطني –فى أكثر من مناسبة وكلٌ بأسلوبه وتعبيره كان يبدي استغراباً لتفويت هذه الأحزاب لدعوات الوطني، سواء فى تشكيل حكومة قاعدة عريضة أو لأغراض إنشاء الدستور. دعوات غاليات لكل سياسي يعرف ألف باء السياسة، ولكن الأحزاب السودانية -وبمبررات واهية- أضاعت الفرص وما تزال تفعل. القوى الدارفورية المسلحة هي الأخرى أوصدت الباب فى وجهها بيديها، ولو كانت جادة وصادقة فى ما تفعل لولجت ساحة العملية السلمية منذ أبوجا 2006 ولتسنّى لها طوال هذه المدة تحقيق الكثير والكثير جداً، فالمشكلة أن قادة هذه الحركات لا يتمتعون لا بطول النفسي السياسي، ولا بالنظرة البعيدة، ولا حتى بتكتيكات العمل السياسي باعتبار أن السياسة فن الممكن. قوى دارفور المتمردة –بأخطائها ومكابرتها– وصلت الى أحرج نقطة الآن حيث باتت ممقوتة ومكروهة لدي أهل دارفور بفعل عمليات السلب والنهب المشينة التى تقترفها في حقهم يومياً. كان الأمر سيكون مضنياً للحكومة السودانية أن تدير عملية سلمية فى دارفور تستوعب كافة هذه الحركات وفى الوقت نفسه تستوعب مركزياً الأحزاب السياسية وتعالج الأزمة فى جنوب كردفان. وعلى ذكر متمردي جنوب كردفان فإن رضاؤهم بنتيجة الانتخابات وفق النصح الأمريكي الذي كشف عنه ليمان مؤخراً كان من المحتم أن يمنحهم فرصاً أفضل فى الاستحقاق المقبل، والذي لم تتبق له سوى أشهر، فقد أضاع هؤلاء المتمردين أكثر من ثلاث سنوات لا هم حققوا نصراً بالسلاح، ولا بإمكانهم الاستعداد للإستحقاق الانتخابي القريب، بل باعدوا بينهم وبين مواطنيهم لتزداد الهوة المتسعة أصلاً، إتساعاً. من المؤكد أن الحكومة السودانية ما كانت لتكون صادقة مع نفسها لو لم يثر هذا الحراك قلقها، ولهذا فإن إخفاق هذه القوى المسلحة والأحزاب السياسية فى إدارة صراعها مع الحكومة تفاعل وتفاقم ليصل أسوأ نقطة؛ ذلك أن وثيقة ما عُرف بالفجر الجديد كانت هي آخر نقطة يصلها قطار هؤلاء المعارضين، وبعدها لا يوحد خط، وإنما توجد كومة من التراب التى عادة ما يضعها مهندسو السكك الحديدية تعبيراً عن إنتهاء الخط! وثيقة الفجر الجديد وقعت كالصاعقة على السودانيين قاطبة، فقد أيقنوا – ربما لأول مرة – أن القوى المعارضة جميعها –مسلحة سياسية، طرفية أو في الوسط؛ تسعى لتقسيم السودان لأقاليم تمهيداً لفصله، كما تسعى لفصل الدين عن الدولة لتشيع علمانية لا يعرفها السودانيين ولا يطيقونها؛ كما أنهم سوف يحلّون الجيش – بكل ما يعنيه من رمزية وثيقة الصلة بكبرياء وكرامة السودانيين. لقد أهدى هؤلاء المعارضين السودانيين آخر ما في وعائهم السياسي المظلم والفارغ ليعيد الجميع اكتشافهم جميعاً واكتشاف الفاجعة التى يدبرونها لهم. إن من المؤكد أن هذا التطور الهام شكل فجراً جديداً للحكومة السودانية حيث تراجع ترمومتر القلق، وسنحت السوانح للحكومة لكي ترتب بيتها من الدخل، بإعادة إصلاح ما يستوجب الإصلاح ومعالجة الاقتصاد ومحاربة الفساد والتماهي بعمق مع هموم وتعقيدات الحياة المعيشية اليومية للمواطنين، لتفاجأ قوى المعارضة بأن الحكومة السودانية سحبت قطعة البساط الصغيرة التى كانوا يقفون عليها!