قبل أي حديث عن التغييرات المحتملة في السياسة الخارجية الأمريكية، خلال ولاية الرئيس أوباما الثانية، ومدى جديتها وعمقها، وقدرتها على الاستجابة للتطورات الداخلية والخارجية التي ارتفع منسوبها خلال العامين الأخيرين، لا بد من الإشارة إلى أهم مرتكزات ومحددات هذه السياسة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفكر السياسي والمنهجية السياسية الأمريكية، وبالمصالح الواسعة الطيف للولايات المتحدة، إذ تشير المعطيات والوقائع التاريخية إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية ترتكز على عدد من العناصر الأساسية، الأهم فيها هو السعي إلى استكمال عملية احتكار منابع النفط في العالم، وتوسيع شبكة القواعد والتسهيلات العسكرية لبسط النفوذ السياسي، وفتح الأسواق للشركات الأمريكية المختلفة التي تسهم، فعلياً، في صناعة القرار في الأروقة الخلفية، وديمومة التحالف الاستراتيجي مع “إسرائيل" التي تعد قاعدة عسكرية متقدمة، ورقعة مصالح غربية أمريكية وسط العالم العربي . غير أن هذه المرتكزات التي حكمت السياسة الخارجية الأمريكية التي تغيرت طبيعة تقريرها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وكان أبرز تجلياتها، في العام الماضي، اعتماد إدارة أوباما استراتيجية جديدة تقضي بنقل تركيز القوة العسكرية الأمريكية من منطقة شمال الأطلسي إلى منطقة آسيا- الهادي، في أكبر تحول استراتيجي منذ حرب فيتنام، باتت تهتز بعنف هذه الأيام، على وقع المتغيرات الاقتصادية والعسكرية، وتالياً السياسية، الأمريكية والدولية التي ما زالت تدفع بالولاياتالمتحدة نحو مزيد من الهزائم والانحدار، وسط ارتفاع منسوب التشاؤم حيال تهدئة البؤر المتوترة في العالم، وحل الأزمة الاقتصادية العالمية التي اعترف “منتدى دافوس" الذي انعقد ما بين 23 و27 الماضي، بعمقها وصعوبة، إن لم يكن استحالة، إيجاد حلول واقعية لها . ويبدو أن تخلخل هذه المرتكزات قد وصل، برأي طيف واسع من المحللين، إلى مستوى الإشباع مع تعيين جون كيري وزيراً للخارجية في إدارة أوباما الجديدة . إذ يبدو أن الرجل الذي وافق مجلس الشيوخ على تعيينه وزيراً للخارجية بأغلبية كاسحة (94 صوتاً في مقابل ثلاثة أصوات) سيكون المترجم الأمين لرؤى الرئيس أوباما الذي يؤمن بنصر الواقعية على الإيديولوجيا، ويعتبر نفسه قاد انقلاباً فكرياً على سياسة سلفه جورج بوش الابن تحت عنوان “التغيير والأمل"، وذلك من خلال مقاربة المواضيع الساخنة في العالم بمنطق التدخل من خلف الستار، أو ما يمكن تسميته الحرب الناعمة، فضلاً عن مواجهة تحديات تهيئة البيئة الدولية في مصلحة الولاياتالمتحدة التي تعاني ديوناً كبيرة، وصعود قوى أخرى إلى واجهة السياسة والاقتصاد العالميين، ومواجهة أخطار خارجية، مثل “الإرهاب" والهجمات الإلكترونية وارتفاع حرارة الأرض، إلى جانب التركيز على القضايا الداخلية الأمريكية، والتغلب على الوضع الاقتصادي المتردي بهدف النهوض باقتصاد الولاياتالمتحدة . ولو حاولنا رصد اتجاهات وحقول السياسة الخارجية الأمريكية المتوقع التركيز عليها، خلال المرحلة المقبلة، انطلاقاً من رزمة من المؤشرات المتراكمة، ومن شهادة الوزير كيري أمام “لجنة الشؤون الخارجية" في مجلس الشيوخ، وكم هائل من التحليلات التي تحفل بها مراكز البحث والصحافة، فسنقف على التالي: من المتوقع أن تضع الخارجية في أولوياتها ملف إيران النووي الإيراني، الذي سيتم فيه التركيز على استراتيجية مزدوجة تجمع بين العقوبات الاقتصادية والمفاوضات الدبلوماسية، إضافة إلى قضية الأزمة السورية التي دخلت منعطفاً خطيراً، وباتت تشكل مدخلاً لصراع النفوذ بين أمريكا وحلفائها من جهة، وروسيا والصين اللتين عادتا إلى الساحة الدولية بقوة، من جهة أخرى، فضلاً عن البحث مع روسيا في تسهيل خروج القوات الأمريكية من أفغانستان، وقضية الدرع الصاروخية في أوروبا، وفتح نوافذ إضافية لتعزيز العلاقة مع الصين، وإعادة التوازن إليها على قاعدة أن بكين “منافس اقتصادي وليست خصماً استراتيجياً" . أما بخصوص الصراع العربي- “الإسرائيلي" والقضية الفلسطينية ومسألة المفاوضات المتوقفة منذ فترة طويلة، فثمة مؤشرات على أن واشنطن تنحو باتجاه فسح المجال أمام أوروبا التي تعتبر الشريك الأكبر ل"إسرائيل" من الناحية التجارية، لتمارس الدور الذي طالما أحجمت عنه لمصلحة الولاياتالمتحدة المحتكرة للملف السياسي الشرق أوسطي . ويستشهد أصحاب هذا التقدير بالتسريبات التي تتحدث عن مضمون خطة سياسية أوروبية يقال إنها من إعداد فرنسا وبريطانيا، ومدعومة من ألمانيا ومن رئاسة الاتحاد الأوروبي، أي أنها على درجة كبيرة من الأهمية والقوة فيما لو أخذت ضوءاً أخضر من الولاياتالمتحدة . على أية حال، وبانتظار بدء قاطرة السياسة الخارجية الأمريكيةالجديدة بالإقلاع، لا بد من التأكيد على أن الولاياتالمتحدة في عهد إدارتها الجديدة، وبعيداً عن الخطب وتنميق الكلام الإنشائي، تسعى إلى تلميع صورتها في مجال العلاقات الخارجية والاستراتيجية، وهي لن تتخلى أبداً عن مآربها التقليدية، وعن مصالحها وحلفائها، كما لن تكون أكثر تشبثاً والتزاماً بالمبادئ الديمقراطية والقضايا الإنسانية، بل ستسعى، بكل ما تملك من وسائل وسبل، إلى مواصلة تأمين مصالحها على حساب تطلعات الشعوب وطموحاتها في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية . المصدر: الخليج 11/2/2013م